صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

تسابيح جراح: وأبصرت عيناي


لقاء مع الجريح المجاهد عبّاس محمّد عودة (جعفر)
حنان الموسويّ


تقدّم صاحبي المسير، وأنا أتبعه ممتشقاً سلاحي. ذاك الانحدار الشديد جذبني بقوّة، وحبيبات الرمل تلثم وجهي. لم أدرك كيف طار الكلاشن في الهواء، وتكوّرت قدمي تحت جسدي، وانساب جسمي الهزيل حتّى ارتطم رأسي بصخرة؛ لتكوِّن وسادةً تحت جمجمتي، وغبت عن الوعي.

* شهادةٌ وأثر
كنّا صغاراً حين وصلنا خبر استشهاد عمّي يوسف عودة في معسكر جنتا، وقد انعكس ذلك علينا تقرّباً من خطّ المقاومة، وانتسابنا إلى كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف. درست اختصاص العناية التمريضيّة، وانضممت إلى صفوف التعبئة. بعدها، خضعت لدورات كثيرة، وأدّيت واجبي الجهاديّ لسنواتٍ عديدة، تعرّضت خلالها لإصاباتٍ مختلفة في جسدي. طُلب منّي الالتحاق بتدريب معسكرٍ في مدينة الهرمل. وهناك، حماسة الشبّان وحيويّتهم تدبّ في الضلوع، ظهرت جليّةً في أدائهم مهامهم.

* تأهيل الصبر
انطلقت ورفيقي على أن نغيب لساعتين نؤدّي فيهما تكليفنا ونعود. لم تكن الأرض مرصوصةً في الجرود، خاصّة وأنّ الطريق الذي نسلكه كان قد حُفِر حديثاً. حمل كلٌّ منّا سلاحه ومشى في ذاك الليل. كان صديقي يتقدّمني حين انزلقتُ وارتطم رأسي أرضاً بعنف، ففقدت الوعي على الفور. قام جميع من في المعسكر بالإسعافات الأوليّة دون أن يلقَوْا تجاوباً منّي، حتّى أنّ أنفاسي حُبست، وكاد الموت يصاحبني، لولا أنّ أحد الشبّان قام بتحرير لساني من عقدته قبل أن أبتلعه، فاستعدت قدرتي على التنفّس، لكنّ وعيي ظلَّ مفارقاً لي.

* تلاشي النور
نُقِلت إلى مستشفى البتول أوّلاً، وبعدها إلى دار الحكمة، ومن ثمّ إلى دار الأمل، حيث بقيت في غرفة العناية الفائقة. خضعت لصورٍ شعاعيّة وفحوصاتٍ، إلى أن استعدت وعيي بعد ثلاثة أيّام. إصابتي الخارجيّة سبّبت أوجاعاً في ظهري وقدمي اليمنى، وأخرى انحسرت في رأسي. ساعات معدودة فقط، وأثناء مشاهدة أخي التلفاز، أحسست بغشاوةٍ على عينيّ، وعجزت عن قراءة شريط الأخبار، وبعدها، تلاشى النور وأعتمت دنياي فجأة! نُقِلتُ إلى مستشفى الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيروت، حيث عُرِضت على أطبّاء كثُر، وكان التشخيص أنّ الارتطام سبّب ارتجاجاً في الدماغ، نتج عنه اضطراب العصب البصريّ، فبتّ غير قادرٍ على قراءة الصور وفكّ رموزها. كما أنّ قدمي اليمنى أصيبت بالشلل، ولم تُبارحني آلام ظهري لمدّة طويلة. طال مكوثي في المستشفى قرابة شهرٍ، وبعدها عدت إلى المنزل. سنتان وسبعة أشهر من العمى، لم يتوانَ القيّمون خلالها لحظة عن اصطحابي لزيارة أيّ طبيبٍ مختصّ بإمكانه مساعدتي، ولكن دون جدوى.

* الرضى بقضاء الله
أول العارفين بإصابتي كان أخي. استقبلني في مستشفى دار الحكمة ولم يفارقني البتّة. بعدها، قام بإخبار أخي الأوسط باحتمال الشهادة بين لحظةٍ وأخرى، طالباً منه عدم إعلام أحدٍ من العائلة، خاصّةً أنّ وضعي الصحيّ لم يكن مستقرّاً. لكنّ الخطر الذي تربّص بي، دفع المعنيّين، الذين احتشدوا حولي منذ اللحظة الأولى، إلى إحضار أمّي وزوجتي، وإخبارهما بحالتي كما هي. صار جلّ همّ أميّ معرفة ما إذا كنت سأعود معها إلى المنزل أم سأرحل إلى الأبد، فكان جواب الأطبّاء أنّ الأمر برمّته في يد الخالق، ولا حيلة لهم بشيء. أمّا والدي، فلم تساوره الغرابة ممّا حصل، لذلك كان راضياً بقضاء الله، متقبِّلاً لما سيحمله القدر بصبرٍ. وكذلك زوجتي، فقد تقبّلت إصابتي بجلَدٍ كبير، رغم حملها بولدي الوحيد، فأذهلت الجميع بجسارتها. لم تفارقني عائلتي مطلقاً أثناء رقودي في المستشفى.

* ابنتي دليلي
بعد خروجي من المستشفى، باتت ابنتي كوثر تمسك يدي وتصحبني لقضاء احتياجاتي حتّى البسيطة منها. كما أنّ حال قدمي لم يتحسّن، لذا، خضعت لجلسات علاجٍ فيزيائيٍّ طيلة شهر ونصف تقريباً، تحسّنت خلالها تدريجيّاً، واستعدت شيئاً فشيئاً القدرة على المشي، وما زلت أخضع حتّى الآن لعلاجٍ ظهري. أمّا ذاك الارتطام، فقد ترك بصمته في رأسي، فقد أصبتُ بالصرع، ما سبّب لي أوجاعاً كثيرة ما زلت أتلقّى علاجها حتى الآن.

* بشارة الخير
سنوات مرّت، ووحده حزن ابتسامتي الباهت المختبئ في زوايا نفسي، كان يدسّ الأمل في الوقت مع كلّ مناجاة. ومع حروف "خذ حتّى ترضى"، تنزل السكينة في ضلوعي، حتى أنّ أدعيتي تلوّنت بالصبر إلى أن تجلّى أمر الخالق ولطفه، حين كانت ابنتي تلهو بالهاتف بين أحضاني. وبينما كانت تلتقط لي الصور، لمع وميضٌ في عينيّ، فأخبرتُ المعنيّين في مؤسّسة الجرحى، وسريعاً تمّ حجز موعدٍ عند الطبيب.

ولأنّ إصابتي تسبّبت بارتجاجٍ في رأسي فقد أدّى ذلك إلى تشويشٍ واضطرابٍ في بعض الوظائف. ولكن مع مرور الأيّام، استقرَّ وضع الدماغ، وبدأ العصب البصريّ يستعيد نشاطه بشكلٍ تدريجيٍّ وبسيط، بالاستعانة بقطرة تقوّيه وترمّمه. وبفضل الله، استعدت بصري بشكلٍ جزئيّ، واستطعت رؤية وحيدي للمرّة الأولى بعد نحو سنتين مرّتا على ولادته.

إصابتي أضحت ملاذي في القرب من الله؛ فعند كلّ بلاءٍ ومصاب، بتّ أسكب في جوف الليل أوجاعي، وأشكو له حالي أنا السجين الذي طوّقته الضغوطات.

* لغة الحنين
إلى سيّدي ومقتداي سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله): يحاصرني اشتياقي إليك، وفي أوردتي حبٌّ عظيمٌ يجري لك، ودعاءٌ يرتقي نحو الله مع كلّ زفرةٍ بأن يحفظك ويحميك. يا سيّدي، في خدمتك نحن في كلّ حين، لن نتركك في تيه المكائد وحدك، حتّى ارتحال أرواحنا. وما جهوزيّتي لأكون بين يديك سوى امتثالٌ لطاعة وليّ الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف.


الاسم الجهاديّ: جعفر.

تاريخ الولادة: 26/5/1980م.

مكان الإصابة وتاريخها: الهرمل 11/7/2018م.

نوع الإصابة: في الرأس.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع