آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

حكايا الشهداء: رحلة اللّحظة


(آخر لحظات الاستشهاديّ صلاح غندور)
أروى الجمّال


- الحاج خالد بزّي: "سلّم لنا عليه".

- علي أشمر: "الله يمنّ علينا إنو نشوفو لهالإنسان العظيم. يعني أنا تلميذ مش أكتر رايح يشوف أستاذه".

بتلك الكلمات ودّع الاستشهاديّ علي أشمر الشهيد القائد خالد بزّي، وهو من جهّزه وكان معه في لحظاته الأخيرة، كما كان قبل نحو عامٍ مع الاستشهاديّ صلاح غندور، صاحب الروح الملائكيّة. وأيّ صلاح ذاك الأستاذ الذي يتحدّث عنه عليّ، ويشتاقه الحاج خالد؟!

* علّها تلمح عودته
كانت عيناه تنظران من خلال عدسة المنظار مرّةً أخرى، علّها تلمح عودته. تبدّد ذلك الأمل، حين تناثر جسده كباقة ورد، تناثرت بتلاتها الفوّاحة، وأزهرت نصراً عبر الزمن.

التقينا مجدّداً الحاج مهديّ، أحد المصوّرين الأساسيّين في الإعلام الحربيّ منذ بداية التسعينيّات، وقد عاد بذاكرته هذه المرّة، ليخبرنا عن الاستشهاديّ صلاح غندور، وما حصل معه من أحداث خلال مواكبته له في الأيّام الأخيرة، خصوصاً خلال تصوير اللّحظات الحاسمة والأخيرة في حياته.

* وكانت المفاجأة
يبدأ الحاج مهدي حديثه عن اللقاء الأوّل خلال المهمّة التي أوكل بها بصفته مصوّر: "كنتُ أجهّز مستلزمات التصوير، وأنا أنتظر الأخ الذي سينفّذ العمليّة الاستشهاديّة، فقد كانت مهمّتي أن أواكبه وأسجّل وصيّته وكلّ لحظاته، وصولاً إلى المهمّة الأخيرة، لتكون المفاجأة، بأنّ من سأكون معه، هو صديقي في الجهاد، وكانت تربطنا علاقةٌ وطيدة".

يتابع الحاجّ مهدي قائلاً: "كان ملاكاً وصافياً جدّاً؛ لا بل إنساناً فريداً، وكان أهمّ دليلٍ في المنطقة المحتلّة حينها، والمخطّط للقيام بعمليّاتٍ في محور بنت جبيل، وهو الشجاع الذي قام يوماً بالتسلّل إلى أطراف معبر بيت ياحون وانقضّ على الجنود قرب (الميركافا) خلال أحد الكمائن ورمى قنبلةً عليهم، محاولاً أسر جنديّ صهيونيّ. تذكّرنا ذلك عندما التقينا مجدّداً، وانطلقنا سويّاً في رحلة اللّحظة".

* لقاء الأحبّة
ينتقل الحاج مهدي بحديثه عن مواكبته في الأيّام الأخيرة: "أنهى صلاح التجهيزات، وأصبحت المعلومات لديه عن الهدف كاملةً ودقيقة، حيث أمضى صلاح ثلاثة أشهر، يرصد حركة القافلة، وموعد تبديلها من فلسطين إلى مركز الـ (17) في بنت جبيل، وبعدها قام بالبحث عن السيّارة المناسبة (براق الشهادة)، التي وجدها في بلدة الطيري. كانت أشبه بالخردة، لكنّه عمل لأسابيع على إصلاحها وتأمين قطع غيار لها بمساعدة اختصاصي ميكانيك، حتّى اشتغلت معهم. اكتمل طرح العمليّة، الذي قُدّم لقيادة المقاومة، من الشهيد خالد بزّي، إلى المسؤول العامّ العسكريّ آنذاك الشهيد مصطفى بدر الدين (رحمه الله)، الذي قدّمها بدوره إلى الأمين العام سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، فطلب سماحته أن يلتقي بصلاح، وفعلاً، حصل اللّقاء بحضور الشهيد القائد السيّد ذي الفقار، ومسؤول عمليّات المقاومة آنذاك، وتولّى صلاح بنفسه شرح تفاصيل العمليّة. يومها، أذكر أنّ سماحة السيّد سأله لأكثر من مرّة، إذا كان على جهوزيّة، فكان يردّ بالابتسامة والطمأنينة، عندها، أتى الجواب من الأمين العام: "امضِ على بركة لله، ولا تنسنا من الشفاعة".

كانت تمتماتٍ صامتةً من قائدٍ وأبٍ لمجاهدٍ سار بركب من يهيّئ لدولة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو مطمئنٌ وسعيدٌ جدّاً. هذا ما عبّر لي عنه ونحن في طريقنا إلى الجنوب، حيث المهمّة الأخيرة".

* حجّ العاشقين
يتابع الحاج مهدي: "يومها، أكملنا طريقنا إلى المحطّة التالية. كان اللقاء الأخير في "كفرملكي" مسقط رأس صلاح، وهناك التقى بوالدته. أذكر جيّداً نظراته إليها وهو يودّعها بطريقته الخاصّة، وهي في الوقت نفسه تستودعه الدعوات والصلوات، فصلاح على حسب علمها متوجّهٌ لأداء مناسك الحجّ. وهل ثمّة أجمل من الحجّ نحو المعشوق الأوحد؟!".

* خلف الكاميرا
ماذا حصل خلف الكاميرا؟ والحديث للحاج مهدي: "كان المطلوب أن نسجّل الوصيّة قبل أيّام من القيام بالعمليّة الاستشهاديّة. وصلنا إلى المكان المحدّد، وكان الشهيد القائد خالد بزّي، وبعض القادة الميدانيّين بالانتظار، وقد أجروا تأكيداً على تفاصيل العمليّة مع وضع اللّمسات الأخيرة. جهّزوا دميةً على شكل رجل "المانيكان"؛ ليجلس إلى جانب الشهيد صلاح في السيّارة؛ لكسر توقّع العدوّ الإسرائيليّ وإجراءاته الأمنيّة حول وجود رجلٍ واحدٍ في السيّارة، كما هو معتادٌ في العمليّات الاستشهاديّة. وصلاح كان ممّن عرفوا المنطقة بقراها وتلالها، حتّى أنّه وصل إلى الشريط المحتلّ أكثر من مرّة في مهمّات استطلاعيّة".

* إلّا من نور وجهه
"وأنا أسجّل له الوصيّة، دخل الليل علينا. كنّا قد صلّينا المغرب، وأدّى صلاح مستحبّاته العباديّة، ولكنّ المستغرب أنّه بعد ساعتين، أوقف التسجيل، وذهب إلى الغرفة المجاورة، توضّأ وصلّى صلاةً خاصّة، وحين لاحظتُ غيابه، دخلتُ إلى الغرفة المظلمة إلّا من نور وجهه، فوجدته ساجداً. بقي هكذا لفترة طويلة، ولا أعلم ماذا تمتم مع معشوقه، لكنّ السكون كان يلفّ المكان، إلّا من بكائه. وفي اليوم التالي، توضّأ وصلّى ركعتين، وودّع الجميع، ومضينا معاً للشروع بأوّل مراحل العمليّة: الدخول إلى الشريط المحتلّ، أذكر يومها أنّه طلب أن نضع في مُسجِّلة السيّارة شريط نشيد (الشعب استيقظ يا عبّاس)، وعلى نغمات تلك الكلمات ودّعني، وانطلق".

* "أنا صلاح"
بقلمٍ هادئٍ كتب كلماته الأخيرة قبل تنفيذ العمليّة:

"أنا صلاح محمّد غندور، المعروف بملاك، أسأل الله أن يوفّقني للقاء سيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام، إنّني إن شاء الله، بعد قليل من هذه الكلمات، سوف ألقى الله معتزّاً مفتخراً منتقماً لديني ولجميع الشهداء الذين سبقوني على هذا الطريق".

كان "ملاك" الاسم الجهاديّ لصلاح، وهو من مواليد كفرملكي عام 1968م، متأهّلٌ وله ثلاثة أولاد، وكان قد التحق بحزب الله عام 1982م، وبدأ العمل الفعليّ مع المقاومة عام 1985م، مشاركاً في عمليّات ميدانيّة واستطلاعيّة عديدة، وقد شارك شخصيّاً بالإعداد لعمليّته الاستشهاديّة منذ اللحظة الأولى وحتّى التنفيذ، وقد طلب من الأخوة أن يزيدوا كميّة المتفجّرات في السيّارة؛ ليقتل أكبر عدد من الصهاينة.

يكمل كلماته قائلاً: "إخواني: لقد عاهدتُ نفسي أن لا أواجه الله وسيّدي أبا عبد الله عليه السلام، إلّا وأنا مقطّع الأوصال والأشلاء، دون الرأس و اليدين؛ حتّى يكون لي قدم صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، وأن يُثبّت لي قدم صدق مع الحسين عليه السلام وأصحاب الحسين، الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام".

* عيني أم عين الكاميرا
كان الراصد يقف إلى جانب المصوّر، ينتظر في عمق المنطقة ويرصد؛ ليعطي الإشارة إلى "ملاك" العاشق أنّ القافلتين قد وصلتا إلى الهدف. توجّه بسيّارته إلى أمام مركز الـ17 في بنت جبيل المحتلّة آنذاك، وهو من أهمّ مراكز الاحتلال الإسرائيليّ الاستخباراتيّة، فوصل إليهما بشكلٍ هادئ، حيث كانتا على وشك التبديل.

يقول الحاج مهدي عن تلك اللّحظات: "لا أعرف يومها، إن كنتُ أراه بعيني أم بعين الكاميرا. لم أستطع أن أضبط مشاعري في تلك اللحظات، وأنا أرى من كنتُ معه على مدى أيّام في لحظاته الأخيرة، سينفّذ عمليّةً استشهاديّة. أنا نفسي من سأوثّق لحظات عروج روحه نحو السماء. ففي اللّحظة نفسها التي سأضغط فيها على زرّ الكاميرا لأوثّق الحقيقة، سيؤرّخ هو بدمه بداية الانتصارات!".

* لحظة الحسم
ومع كلمة الشهيد القائد خالد بزّي: "الله معك"، ردّ "ملاك" بكلماته الأخيرة: "الله أكبر"، عصر يوم الثلاثاء في 25-4-1995م، وبنفسٍ مطمئنة، أعار صلاح الله جمجمته، وعيناه تشعّان بالحبّ والشوق للقاء المعشوق الأوحد. وكان اللّقاء، لتتناثر أشلاؤه أزهاراً فاح عبيرها في كلّ أنحاء القرى الجنوبيّة. وكان بركان النار الذي أحرق الآليّات وثلاثة مبانٍ، بصمة عزّ سجّلها صلاح غندور بعزمه وإرادته، معلناً أنّ النصر آتٍ آتٍ لا محال.

* حدّثهم يا صلاح
في يوم شهادته، خاطبه الأمين العامّ السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) بكلماتٍ وجدانيّة، حمّله فيها السلام للشهداء، قائلاً: "حدّثهم يا صلاح، عن القلوب الوالهة التي تتأوّه ليل نهار شوقاً إلى اللّقاء، وحنيناً إلى عالمهم. حدّثهم يا صلاح، عن الأرواح الوالهة التي تتجلجل في أنحاء الجسد السجن، يعذّبها أسر الدنيا، ويفرحها الإذن بالخروج من لائحة الاستشهاديّين، المكتوبة بالحبر، إلى عالم الاستشهاديّين بالدم".

وكان الشهيد صلاح قد كتب في وصيّته:
"إنّني إن شاء الله مجاهد من مجاهدي المقاومة الإسلاميّة، تلك المقاومة العظيمة التي لم ترهبها طائرات العدوّ ولا دبّاباته، وكلّ الأسلحة التي يمتلكها، والذي كُسرت هيبته على أيدي الشهداء: أحمد قصير، والحرّ العاملي، وأبي زينب، وهيثم دبوق، والشيخ أسعد برّو، وجميع الشهداء الذين قاتلوا هذا العدوّ، الذي حطّم الإسلامُ هيبتَه على أيدي إخواني الشهداء الاستشهاديّين، وغير الاستشهاديّين".

ويكمل سماحته بكلماته الحنونة:
"قل لهم يا صلاح أنّ الأمل كبير، وأنّ النصر الذي حلموا به هم، نراه نحن مُقبلاً لا محالة، وإنّ غداً لناظره قريب".

وكأنّ الشهيد أجاب سماحة الأمين، مسبقاً في ختام وصيّته:

"إن شاء الله النصر قريب واللّقاء قريب، إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع