إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد

إلى كل القلوب: يوم مواساة العبّــاس عليه السلام(*)


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


أتوجّه إليكم جميعاً بالتبريك بمناسبة حلول شهر شعبان المعظّم، والمقدّمة لشهر رمضان الكبير، شهر الله وشهر ضيافة الله سبحانه وتعالى، وما فيه من مناسبات كريمة وحبيبة وعزيزة على قلوبنا، وخصوصاً المناسبات الآتية: في الثالث منه ولادة الإمام الحسين عليه السلام سيّد الشهداء، وفي الرابع من شعبان ولادة العبّاس عليه السلام أبي الفضل، وفي الخامس من شعبان ولادة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السلام، وفي الحادي عشر من شعبان ولادة عليّ الأكبر عليه السلام، وفي الخامس عشر من شعبان ولادة الإمام الحجّة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

نُلاحظ أنّ أهمّ رموز كربلاء ومحرّم كانت ولادتهم الشريفة في شهر شعبان، كما أنَّ الأمل المرتجى لمظلومي ومستضعفي ومعذبي هذا العالم كانت ولادته في هذا الشهر أيضاً، وهنا يتأكد هذا الاتّصال العظيم بين كربلاء وبين الأمل الآتي من المستقبل. ومن بين هذه المناسبات، اتُّخذ يوم ولادة العبّاس أبي الفضل عليه السلام يوماً لجرحانا من الإخوة والأخوات.

•العبّاس عليه السلام صاحب البصيرة النافذة
هو أبو الفضل العبّاس عليه السلام، ابن أمير المؤمنين عليه السلام، اتُّخذ كرمزٍ وقدوة للجريح، لأنّه أُصيب في كربلاء إصابات بالغة؛ قُطعت يمناه ويسراه، وأُطفئت عيناه، واحدة بالسهم وأخرى بالتراب، وشُجَّ رأسه، وأُصيب في جسده بجراحات كثيرة، ومع ذلك، لم يَنسحب من المعركة، ولم يتوقّف، ولم يتراجع، ولم يتزلزل، بل صبر وصمد حتّى آخر لحظة، وحتّى آخر نفس، وحتّى آخر قطرة دم. 

العبّاس عليه السلام رمزٌ للصمود والثبات والعطاء والجود والتضحية، وهو أيضاً رمزٌ للإيثار، وكُلّنا يَعرف قصّة شُرب الماء. العبّاس عليه السلام صاحب البصيرة النافذة، كما يصفه أئمّة أهل البيت عليهم السلام، قبل بدء المعركة، عرض أخواله عليه وعلى إخوته الثلاثة، الأمان مقابل الانسحاب من المعركة، ولم يُطلب منهم الالتحاق بجيش يزيد ليقاتلوا أخاهم الحسين عليه السلام، وإنّما الانسحاب من المعركة فقط؛ أي أن يكونوا على الحياد، ولكنّ العبّاس عليه السلام صاحب البصيرة النافذة وإخوته الثلاثة كانوا يعرفون جيّداً حقيقة المعركة وحقيقة الجبهتين، وأنّ الصراع هو صراع حقّ وباطل، وظالم ومظلوم، وأنّه في هذا النوع من الصراع لا مكان للحياد، فاتّخذ قراره بالبقاء والقتال حتّى الشهادة.

•الشخصيّة القدوة
عندما نزور العبّاس عليه السلام في ما هو مأثور في الزيارات، نقول له: "السلام عليك أيّها العبد الصالح، المطيع لله ولرسوله، أشهد أنّك جاهدتَ ونصحتَ وصبرتَ حتّى أتاك اليقين"، وفي زيارةٍ أخرى نقول: "أشهدُ لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة"، وفي مكانٍ آخر نقول: "أشهد أنّك نصحتَ لله ولرسوله ولأخيك، فنِعمَ الأخ المواسي... فنِعمَ الصابر المجاهد المحامي الناصر، والأخ الدافع عن أخيه، المُجيب إلى طاعة ربّه، الراغب في ما زهد فيه غيره من الثواب الجزيل والثناء الجميل". إذاً، هذه هي الشخصيّة التي نتّخذها قدوةً ورمزاً لنا، بالوفاء، والثبات، والصبر، والنصح، والإيثار، والطاعة، والتصديق، والتسليم، والاستجابة لأمر الله، والرغبة عن الدنيا، والتعلّق بالآخرة، والزهد بما يتطلّع إليه كثيرون من حطام هذا العالم. هذا هو العبّاس عليه السلام، وجرحانا من الإخوة والأخوات اقتدوا بهذا الرمز العظيم. 

•على خطى العبّاس عليه السلام
منذ انطلاق مسيرتنا الطويلة في العام 1982م وحتّى الآن، فإنّ هؤلاء الجرحى، وهم شريحة كبيرة جدّاً، وعددهم أكبر بكثير من عدد شهدائنا، صبروا، وسلّموا، وصَدَقوا، وثبتوا، وصمدوا، ونصحوا، وكانوا أهل الوفاء وأهل الإيثار، ولم يتخلّفوا عن هذه المسيرة لحظةً واحدةً على الإطلاق، بل واصلوا العمل في مختلف الميادين كما فعل العبّاس عليه السلام. وكم هم كثرٌ أولئك الجرحى! الذين كانوا يعودون من المعركة بجراحاتهم العظيمة، وبمجرّد أن يُعالجوا، ويتماثلوا للشفاء، يعودون إلى ميادين القتال والعمل، سواء في العمل العسكريّ أو مختلف المجالات والقطاعات الأخرى، الثقافيّة منها، والتربويّة، والإعلاميّة، والاجتماعيّة، والنقابيّة، والأنشطة العامّة.

هؤلاء الجرحى العظام موجودون في كلّ ساحات العمل، يُعبّرون عن وفائهم وإخلاصهم وثباتهم ومواصلتهم الطريق. نجدهم، حتّى لو عجزوا عن حمل البندقيّة، يذهبون إلى جبهات القتال للحديث مع المجاهدين، والتأثير فيهم ورفع معنويّاتهم. هذا هو حال هؤلاء الجرحى الذين قاتلوا وقدّموا تضحيات جساماً. وهو أيضاً حال الجرحى المدنيّين الذين تحمّلوا أعباء هذه المواجهة، وتحمّلوا الاعتداءات الإسرائيليّة، واعتداء عملاء جيش العدوّ في زمن الاحتلال. وكثير من الجرحى المجاهدين والمدنيين هم ضحايا تبعات مواجهة الجماعات التكفيريّة، الذين أُصيبوا بسبب السيّارات المفخّخة، التي كانت تُرسل إلى مدننا وقرانا في السنوات الماضية، أو حتّى في زمن الاحتلال الإسرائيليّ، إذ كان الأخير يرسل سيّارات مفخّخة إلى مدننا وإلى قرانا؛ لاغتيال كوادرنا ومجاهدينا.

•بالبصيرة أدركوا
على كلّ حال، يوماً بعد يوم، يزداد هؤلاء الجرحى بصيرةً، كما هو حال عوائل الشهداء، وكلّ المقاومين والمجاهدين والمؤيّدين، ويزدادون وعياً، وفهماً، وإيماناً، من خلال الوقائع، بأنّ المكان الذي ذهبوا إليه، وقاتلوا فيه، وجُرحوا فيه كان مكاناً صحيحاً.

وإنّ هؤلاء المجاهدين، الذين أصبحوا جرحى الآن، شاركوا في المعارك التي خاضتها المقاومة الإسلاميّة ضدّ الاحتلال الصهيونيّ، وصولاً إلى معارك الدفاع عن المقدّسات، ضدّ الاحتلال التكفيريّ.

وهم في الحقيقة كانوا يشاركون في تلك المعارك، ليس دفاعاً عن بلد بعينه، وإنّما دفاعاً عن كلّ الأمّة والمنطقة ومستقبلها، ودفاعاً عن القضيّة الفلسطينيّة، في وجه المؤامرات التي تُحاك ضدّنا جميعاً.

•يوم التضحية والوفاء
في يومكم أيّها الجرحى الأحبّاء، أيّها الإخوة والأخوات، لكم، ولعائلاتكم الشريفة، وخصوصاً للأمّهات والزوجات، أبارك لكم هذا اليوم، وهذه المناسبة، يوم مولد أبي الفضل العبّاس عليه السلام، سيّد التضحية والوفاء والبصيرة والتسليم والتصديق.

لكلّ جريح ‏وجريحة، أقول: كل عام وأنتم بخير، أعاد الله عليكم يومكم وعيدكم هذا بالصحّة، والعافية، والصبر، والثبات، والسلامة ‏وحُسن العاقبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ‏

(*) كلمة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) في يوم الجريح، بتاريخ 19/3/2021م.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع