آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

الشهيد المجاهد الشيخ وسيم شريف شريف (الشيخ حسن)

نسرين إدريس

 



اسم الأم: فاطمة شريف‏
محل وتاريخ الولادة: اللبوة 6 – 4- 1982
الوضع العائلي: عازب‏
مكان وتاريخ الاستشهاد: صريفا 19 - 7 - 2006

حينما سألني الشيخ وسيم عمّ سأكتب عنه بعد استشهاده، أجبته: "استشهد، ولا تقلق"، ولم أكن أدري قبل اليوم، كيف يمكن للسكوت أن يستولي على الكيان. ولولا العتابُ، لما نطق القلم بكلامٍ يسبقه اعتذار له أولاً، ولجميع من عرفه ثانياً. كنّا أربعةً هو أصغرنا سناً، لكنّه أجاد اختصار تلك المسافة بعمق وعيه، وسعة أفق تفكيره، فكان دائماً يُفاجئنا بتحليله للأمور، وإحاطته بها. ورأينا فيه نموذجاً للشبان العصاميين الذين أسسوا بنيان حياتهم بجميع جوانبها؛ الديني والفكري والاجتماعي والفلسفي وحتى الشاعري، على طينةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء.

لقد غيّر الكثير من حياتنا، ترك فيها أشياء جميلة سترافقنا حتى آخر لحظة من أعمارنا. فمع الاقتراب من حياته، تجد نفسك تائهاً وسط الانطباعات التي يتركها فيك، فهو الشاب الملتزم المتزن المنفتح في آن، وهو الكشفي المقاوم، الحوزوي الجامعي، والطالبُ والأستاذ. هو أول الداخلين إلى قاعة الاحتفالات، وفي الصفّ الأول للمسيرات، وهو المشارك دائماً في الندوات الفكرية والأدبية، حضوراً وكتابةً. من أين يأتي بكل هذه الحماسة للحياة؟ لم يعرف أحدٌ منّا جواب هذا السؤال. كان يكتب الشعر على هوامش صفحات الدرس، ويقرأ في لحظات الراحة، ويقضي الليل ساهراً في ترتيب جدول أعماله، دون أن نسمع مرّة كلمةَ شكوى، أو تبرّم، أو تعب؛ اللهم إلا قبل شهر واحدٍ من استشهاده، ذلك الشهر المتسارع الأحداث، عندما اتصل بنا قائلاً إنه قرر تغيير مكان عمله، ففرحنا له جداً، وعندما سألناه بحماسة: "إلى أين؟"، أجاب: إلى حيث سأكون مرتاحاً وسعيداً، (وبَعْدَين بخبِّرْكن!).

تلك الطيبة، والفطرة الطاهرة التي اختزنها بعيداً عن شوائب الدنيا، لمسناها في تفاصيل الدنيا الصغيرة، فرأيناه بأم العين، يمشي في الطريق الصعب مطمئن البال هانئ القلب، في زمنٍ يعجزُ فيه الناس عن التصديق بوجود أشخاص مثله، يذكروننا بزمن الالتزام الأول، الذي كان فيه لكل شي‏ء ثمن باهظ يوازي الحياة! أنهى الشيخ وسيم دراسته الثانوية بذكاءٍ وقّاد يشهد له القاصي قبل الداني، والتحق إلى جانب دراسته الجامعية بالدراسة الحوزوية، حيث تتلمذ على الشيخ المرحوم الإسحاقي، الذي كان يصف وسيم ب"بهشتي لبنان"، وتميّزت علاقتهما بتعلّق غريبٍ تخطّى حدود علاقة المُريد بالمُراد، حتى إذا ما توفي الشيخ الاسحاقي بحادث سيرٍ مؤسفٍ، غرق وسيم في تلاطم الحزن، فكان يجلسُ باكياً لساعاتٍ في غرفةٍ موصدة، يخرجُ منها والبأس مرسومٌ على تقاسيم وجهه، ذلك البأسُ العنيد الممهور بصدقٍ صافٍ، ولا أذكر مرةً أن ذُكر سماحة الشيخ بكلامٍ إلا وقد رافقته الدموع.

"الملاكُ الذي ضيّع طريقه"، كما كنّا نناديه، أصرّ دائماً على قراءة مقالات الشهداء قبل تسليمها لمجلة بقية اللَّه، والتي كان من القراء المداومين عليها، فكان يستغلّ فترة الاستراحة ليقرأها، أثناء مشاركتنا في كتابة عملٍ خاص بالإمام الحسين عليه السلام، وكلما أنهينا فصلاً من العمل، أكّد أنه لن يشاركنا في كتابة المصرع لأنه لا يتحمل ذلك، وفعلاً، لطالما كان يزرعُ نظراته في الأوراق البيضاء أثناء النقاش ليخفي دمعةً غلبته، على مُصابِ أهل البيت عليهم السلام. وبقلمه الشفاف خطَّ لأمير المؤمنين عليه السلام، وللسيدة الزهراء عليها السلام، ولصاحب الزمان عجل الله فرجه كلمات ترك الدمعُ على ضفافها أسرارَ عاشقٍ ضاقت رحابة الدنيا عليه، وكيفما تلفتَ يعيدُ: "نظرة لطفٍ تكفيني من عين علي..". كان يسرقُ الوقت كي يقضي يوماً مع أهله في اللبوة، القرية التي قضى فيها سنيّ طفولته وشبابه، قبل أن ينتقل ليتابع دراسته في حوزة الرسول صلى الله عليه وآله، وعمله في حزب الله، إلى جانب متابعته لدراسته الجامعية في كلية الحقوق فرع العلوم السياسية. وقد ذكرَ أنه عاشَ أجمل ثلاثة أيام في عمره، حينما قضى آخر عيد أضحى مع أهله، بعد مرور وقتٍ لم يتسنَّ له زيارتهم. وفي اليوم الذي خاض فيه مجاهدو المقاومة الإسلامية مواجهة الغجر أواخر العام 2005، وبعد سقوط شهداء، توقفنا عن العمل لنتابع الأخبار وقد غزتْ حماسة غريبة نبرة صوته، وأثناء الحديثِ عن العملية وجّه إليّ سؤالاً، فالتفتُّ ناحيته، لأجيبه عن سؤاله، غير أني سكتُّ وأدرت وجهي. في اليوم التالي، وبغيابه، صرّحت لرفيقتي، وهي زوجة صديقه المقرّب، أنني عندما التفتُّ لأجيب وسيماً عن سؤاله رأيتُ نوراً غريباً في جبهته، جعلني أشعر بالخوف. لم أجرّب أن أعرف سبب النور والخوف، لأني بررتُ ذلك بما يحمله من صفات أخلاقية مشهور بها، فهو الابن البار جداً بوالديه، والصديق الوفي، والصادقُ الأمين، والمتفاني المؤثر، والمواظب على الكثير من العبادات التي تقرّبه من الله عز وجل ومن صاحب الزمان عجل الله فرجه. لا زلنا نذكرُ كيف كان يستغرب وهو يتحدث عن أذى الناس بعضها لبعض، فنجده يضع الاحتمالات، والتبريرات، في مواجهة تبرّمنا به لكثرة ما يحملُ على المحمل الحسن، وفي نهاية الأمر، يقول لنا: "كيف هيك طيب؟".

قبل حوالي شهرٍ ونصف من استشهاده، أسرّ لنا بموضوع جعلنا نضحكُ مستغربين جداً من تعبيره، فهو قال لنا فجأة: "أشعر أني أنقرض!"، كانت تلك من اللحظات القليلة التي ظهرتْ فيها على ملامحه ونبرته علامات التعب. وفي نفس اليوم توافقنا على انتقاء عروسٍ له، واتفقنا معه على أنه يجب أن يعقد قرانه في الصيف، فقد آن الآوان لأن نفرح به، خصوصاً وأنه وافق معنا أن لا يشارك بأي عمل يؤخره عن تقديم امتحانات السنة الأخيرة في الجامعة، ووعدنا أن يحمل شهادة الليسانس ليقدمها هدية لأمه.

وفعلاً، تعرّف الشيخ وسيم على صديقة لنا، ولم يسبق لنا قبل ذلك الوقت أن رأينا الفرح الطفولي في عينيه وتصرفاته، ولم نعرفْ من قبل كيف يمكن للإنسان أن يسابق شعوراً مجهولاً، فهو مستعجل ولم نعهده عجولاً، وقد استخار في موضوع الزواج خيرتين، الأولى له، والثانية لعروسه، فكانت نتيجة الأولى ممتازة، أما الثانية (لا تفعلْ لأمرٍ ما)، فحيّره الأمر، فنصحناه بأن يتصدّق وينتظر أسبوعاً ليكرر الخيرة عند أحد العلماء في إيران، ولكنه حصل على ذات النتيجة.

استبدّتْ به الحيرة، وحيّرنا معه، فلم نعد نعرف كيف نخفف عنه، وكان قد حسم أمر عقد القران بحدود شهر آب أو أيلول، على أن يتصدّق بشأن الخيرة.

نهار الاثنين في 10 تموز 2006 اتصل بي باكراً ليخبرني بأنه يريد أن يتصدّق صدقة يُفرح بها صاحب الزمان عجل الله فرجه، وبعد أن اتفقنا على صيغة الصدقة، ذكّرني بأنه يريد لهذه الصدقة أن تُشعر قلب صاحب الزمان عجل الله فرجه بفرحة كبيرة. لم يخطر في بالنا أننا فجأة سنفقده، وأن نتيجة الخيرة التي أشارت إلى "أمرٍ ما" مقرونة بالشهادة، فهو ودعنا عبر الهاتف وطلب إلينا أن ننتبه على أنفسنا، وغاب عنا. ذلك الشابُ الذي اقتحم حياتنا بروية، لم نعرف كيف صار فجأة يضجّ فيها، كنا نشعر بأنه يريد أن يوصلنا إلى مكانٍ ما، وقد وصلناهُ وعرفنا كل أسراره، ولكنه تركنا هناك ورحل إثر غارة على مجموعة من المجاهدين في قرية صريفا، وقد استشهد الشيخ وسيم وهو يؤدي صلاة الليل. إنه ليعزّ عليّ أن أكتبَ عنكَ، وقد خلتُ لوهلةٍ أنك عندما تراني ستطالبني بقراءة "آخر مقال للمجلة".

إلى عائلة الشيخ وسيم شريف وإلى زملائه في الجامعة اللبنانية، وفي حوزة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وإلى رفاقه في العمل، وأصدقائه، وإلى تلامذته من طلاب الجامعات الذين تعلّموا منه الكثير، نقدم اعتذارنا على الاختصار الشديد.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع

العراق ،،،الحلة

ايمان الغريب

2020-10-21 00:31:15

بكل فخر نكتب عن الشهداء هؤلاء اللذين أدركوا معنى الخلود والحياة الأبدية ،،كم نحن صغار أمامكم وهل سيوفقنا الله لما وفقكم ،،اللهم نسألك الهدى والثبات والشهادة