نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

من القلب إلى كل القلوب: أيُّكم أحسن عملاً!

سماحة السيد حسن نصر الله



عندما خلق الله تعالى الإنسان، قضى التخطيط الإلهي والمشيئة الإلهية بأن يكون لهذا الإنسان حياتان، حياة آخرة، وحياة دنيا. فيما يتعلق بالحياة الآخرة، شاء الله سبحانه وتعالى أن تكون هي الحياة الحقيقية، ولذلك أعطاها صفة الخلود، فهي حياة أبدية، لا موت فيها ولا زوال. ولأنها الحياة الحقيقية تظهر فيها كل الحقائق، ﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (الطارق: 9). لأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية، السرمدية والواقعية.

* دار الجزاء
بالنسبة للحياة الآخرة، جعل الله سبحانه وتعالى العنوان الرئيس لها هو "دار الجزاء" بمعنى أن كل إنسان بدون أي استثناء سيلاقي جزاء عمله في الحياة الآخرة. وكل ما ذكر في أحداث القيامة، هو مقدمة لحصول الجزاء الأخروي: إعادة إحياء الموتى، السؤال، الشهداء والشهادة. كتب الأعمال التي تُعطى للناس هذا يأخذ كتابه بيمينه وذاك بشماله، الميزان، الشفاعة، الصراط، كل هذه الأحداث والأسماء هي في الحقيقة مقدمة للجزاء (أي للثواب والعقاب). ويستقر المشهد بعد انتهاء الحساب وسلوك الناس الصراط، قومٌ في الجنة وقومٌ في النار.

الحياة الأخرى هي الدنيا، وسُميت أيضاً بالعاجلة في مقابل الآخرة (الآجلة). لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون للحياة الدنيا دور ووظيفة ولذلك هي حياة محدودة، لها أجل. وعندما ينتهي الأجل ينتهي كل شيء، لتبدأ أحداث الآخرة. إذاً هذا النظام الكوني يتجه إلى نهاية، لأن لعالم الآخرة كوناً مختلفاً ونظاماً مختلفاً، ومعايير مختلفة. أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون الدنيا دار العمل كما أن الآخرة دار الجزاء، ومع ذلك لا يعني هذا أنه لا يوجد جزاء دنيوي، ولكن حتى الجزاء الدنيوي هو زائل فانٍ، وليس بشيء أمام الجزاء الحقيقي في الآخرة. والله سبحانه وتعالى أقام علاقات بين العمل وبين الجزاء، في الآخرة وفي الدنيا. الجزاء هو نتيجة عمل الإنسان وذلك حتى يحصل الإنسان باستحقاق وجدارة على جنّته، وعلى نعيمه وكرامته. ولكنَّ ذلك يحتاج إلى جهاد، وعمل، وصبر، وتضحيات. هذه مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهذه ميزة الإنسان الذي أراد الله تعالى له أن يحصل على مقام الخلافة، والأمانة، والكرامة، والقرب من الله عزّ وجلّ.

دار الاختبار
الدنيا هي دار العمل، دار الاختبار، هي دار الامتحان، أو بالتعبير القرآني هي دار البلاء والابتلاء: لنبلوكم، لنبلونكم، لنبتليكم...  هناك ثلاث آيات كريمة تضيء على هذا الموضوع: الله تعالى يقول: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (هود: 7). أي ليرى ما الذي ستفعلونه في هذه الحياة الدنيا. وقال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (الملك: 2). وفي آية ثالثة قال الله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرْضِ زِينَةً لَهَا لماذا؟ يقول الله: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الكهف: 7). ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً (الكهف: 8). بمعنى أن كل هذه الأرض فانية. وهنا الله تعالى يبلونا ليرى أيّنا أحسن عملاً، لأنه فيما بعد هناك جزاء وحساب، لنكون مستحقين للثواب بجدارة، أو مستحقين للعقاب وليس لنا حجة على الله عندما يُعاقبنا بذنوبنا أو بسوء أعمالنا.

* البلاء بالحسنات والسيئات

﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (الملك: 2). عنوان البلاء عام وهو بمعنى الاختبار والامتحان. والله سبحانه وتعالى يختبر عباده بالنعم، بالحسنات، وهو أيضاً يختبرهم بالمصائب والمِحن أي "بالنعمة والنقمة". في التعبير القرآني النعمة بلاء والنقمة بلاء. ولكن، نتيجة الفَهم العرفي عند قول "بلاء" يذهب الذّهن مباشرة إلى المصائب، لأن المصائب هي أشدّ أنواع البلاء. 

أما في القرآن الكريم فيقول سبحانه وتعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ (الفجر: 15). هنا مصداق الابتلاء الإلهي الإكرام والإنعام، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (الفجر: 15) "قَدَر" أي "ضيّق". إذاً الإكرام ابتلاء والإنعام ابتلاء.  وهناك شواهد كثيرة في القرآن الكريم.

* الاختبار الإلهي
في الاختبار الإلهي هناك مجموعة أمور عامة لا بد من الالتفات إليها:

أوّلاً: إن هذا الاختبار والامتحان هو قانون إلهي شامل لكل الناس. كل إنسان بلغ سن التكليف، هو موضع اختبار وابتلاء، لأن هذه إرادة الله في الخلق. حتى أنبياء الله تعرضوا للاختبارات والابتلاءات. وقد ذكر الله تعالى أصناف اختباراتهم في القرآن الكريم. طبعاً، تختلف أهداف وأنواع الاختبار والابتلاء بين الناس من شخص لآخر، لكن في المبدأ الكل مبتلى والكل ممتحن.

ثانياً: الاختبار قد يأتي لفرد وقد يأتي لجماعة، وقد يأتي أيضاً شاملاً للبشرية كلها.

ثالثاً: الله تعالى، في أحيان كثيرة، يمتحن الإنسان في أكثر من شأن من شؤون الحياة. فقد يكون الاختبار الإلهي بالفقر، بالمرض، بالصحة والغنى، وقد يشمل الامتحان في وقت واحد شأنين، ثلاثة، أو أربعة.

رابعاً:ـ إن أنواع وحجم الابتلاءات قد تختلف بين شخص وآخر وذلك بحسب إمكانات وطاقات وطموحات وتطلعات هذا الشخص، وقد تختلف من جماعة إلى جماعة، لذلك فالأنبياء ابتلاءاتهم مختلفة، الأوصياء والأولياء والمؤمنون بلاءاتهم مختلفة، وهذا كله عن حكمة وتقدير أيضاً.

خامساً: من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أنّه عندما يختبرهم ويبتليهم بالنّعم أو بالنّقم، لا يكلّفهم بما لا يقدرون عليه، أو لا يستطيعون تحمّله، وذلك خوفاً عليهم من أن يفشلوا في الامتحان. فالله تعالى يريد لعباده أن ينجحوا لأنهم عباده، ولأن الله سبحانه وتعالى لم تقم مشيئته على نحو الإلزام التكويني، وضع لنا شرطاً، وهو أن يكون هذا النجاح بمشيئتنا واختيارنا، بإرادتنا، وجهدنا وعملنا.

سادساً: من الأمور العامة أيضاً في الاختبار الإلهي عدم تكليف الإنسان بما لا يطيق. وهذا من رحمة الله تعالى. فهو عندما يمتحننا، حتى في المصاعب والشدائد، لا يحمّلنا ولا يكلّفنا ما لا نطيق من رحمته.

سابعاً: في الاختبار الإلهي، في الامتحانات التي تتعلق بالدنيا والناس يمكن أن تكون هناك فرصة للتصحيح، ولكن في الامتحانات الإلهية قد تتوفر الفرصة وقد لا تتوفر. على سبيل المثال الذين شاركوا في دم أبي عبد الله الحسين عليه السلام سقطوا في الامتحان، وكل ما قاموا به في حياتهم من صلاة، وصيام، وزكاة، وتضحيات إن وجدت، كل ذلك قد ذهب.

ثامناً: في الاختبار الإلهي أيضاً ولكرم الله وعطفه ورحمته علينا زودنا بكل عناصر النجاح وسخّر لنا كل الإمكانات: الأرض، الشمس، الكواكب، النجوم، الأنعام والحيوانات والبحار كلها مسخرة للإنسان. أعطانا الله العقل الذي لم يعطه لغيرنا من مخلوقاته غير الملائكة. العقل الذي به نفكر لنقوم بالعمل الواجب ونبتعد عن الحرام. كذلك، أعطانا القدرات الجسدية والنفسية التي تؤهلنا للنجاح ومنحنا السمع والبصر، والأيدي والأرجل، يقول تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (الإنسان: 2) ويكمل ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُورا (الإنسان: 3). الله تعالى، أيضاً، أرسل لنا الأنبياء والرسل وأنزل الكتب وأقام الحجج والأولياء، فلا تخلو الأرض من حجة لله على الخلائق، وهدانا سواء السبيل. إذاً الهداية العامة متحققة. أيضاً عرّفنا الأنبياء والأولياء إلى كيفية مواجهة البلاء وأعطونا في ذلك إرشادات تفصيلية. نكتفي بذكر هذه العناوين الثمانية من عناوين الاختبار الإلهي والذي يمتد مع الإنسان منذ بدء التكليف وحتى نهاية حياته.

* كيفية المواجهة
لا بدّ من الالتفات أيضاً إلى أن الامتحان الإلهي يستلزم من الإنسان عدة أمور لمواجهته:
أولاً: الانتباه والحذر، فلا يغفل الإنسان عن حقيقة الدنيا.
ثانياً: أن يعمل الإنسان ويبذل بجد ما يستطيع للنجاح في الاختبار.
ثالثاً: أن يستفيد من الوقت، فيوم القيامة يتمنى الإنسان أن يعود إلى الدنيا ولو ساعة بل دقيقة، ليعمل عملاً صالحاً ينفعه. لذا يجب أن ننتبه لقيمة الزمن وقيمة العمر كباراً وشباباً، ولا يقولنّ أحد إني ما زلت شاباً والعمر أمامي. إن أغلب الذين يموتون نتيجة تطورات العلم، هم من الشباب. كذلك يجب أن نضع هدفاً واضحاً ومحدداً وهو أننا يجب أن ننجح ونفوز في الامتحان، لأن ذلك يعني الحصول على الحياة الحقيقية والنعيم، والسعادة الأبدية السرمدية.

* حتى لا نكرر أخطاء الماضي
من أعظم الاختبارات الإلهية التي مرّت على المسلمين والأمة والبشرية كان الاختبار في الأيام الأولى من سنة 61 للهجرة مع الإمام الحسين عليه السلام.لقد كانت الأمة أمام واقعين، الأول يتمثل في مقام خلافة الرسول صلى الله عليه وآله التي يريد أن يتسلّم قيادتها شخص كيزيد بن معاوية مع ما يتصف به هذا الإنسان من سلوك وصفات سيئة. هذا بحد ذاته اختبار عظيم وهائل للأمة. الواقع الآخر الذي كان أيضاً مورد اختبار وامتحان للأمة وهو الأكبر والأهم أن الحسين عليه السلام، الذي ليس في الأرض غيره ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، قام ليواجه هذا التهديد وهذا الخطر على الإسلام والأمة والخلافة. ماذا سيفعل المسلمون في هكذا موقف؟ كان هذا الامتحان من أصعب ما مرّ في تاريخ المسلمين، كان نوعاً من الامتحانات الحاسمة لكل فرد من أفراد المسلمين.  تحليل هذه الوقائع وقراءتها مهم جداً. اكتشاف نقاط الضعف والقوة.. لماذا من وقف مع الحسين عليه السلام وقف معه؟ ولماذا الذي خرج عليه خرج ليقتله عليه السلام؟ ولماذا هناك من وقف على الحياد؟ هذا كله وبالإحاطة به له قيمة ليس فقط معلوماتية ومعرفية، لكن قيمته أيضاً تتصل بقيمة حياتنا، لأننا نواجه نفس الاختبارات، ونفس الابتلاءات والامتحانات. ولكن، عندما نقرأ تلك التجربة، نستفيد من نقاط ضعفها وقوتها أين كان الخطأ وأين ضاعت الفرص... وذلك.. حتى لا نكرر أخطاء الماضي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع