صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

مناسبة: من ذاكرة الشريط المحتل


تحقيق: زينب صالح

رُسمت على أحد جدران موقع البيّاضة الذي كان محتلّاً من العدوّ الإسرائيليّ قبل تحريره عام 2000، الإحداثيّة الآتية: "1270 متراً"، وسهم، وفوق السهم كلمة "أحمد"، بهدف تحديد موقع بيت "أحمد" لقصفه في أي لحظة قد يُشتبه فيها بضمّه لـ"مخرّبين" يرمون الصواريخ من محيطه.

* والصمود مقاومة
و"أحمد" هذا هو مزارعٌ وربّ أسرة يعتاش من زراعة البستان الذي صادف أنّه قريبٌ من عمل المقاومين، ومحلّ تصويب أهدافهم نحو مواقع العدوّ. رفض أحمد ترك منزله الذي كان في الخطوط الأماميّة، فغدا هدفاً لمدفعيّةٍ لا ترحم، ولرصاصٍ لا يبرح فضاء عمله، فاختلط عرق جهاده في سبيل تحصيل لقمة العيش، بتراب الصمود الذي تطؤه كلّ يوم أقدام مجاهدين مجهولين.
و"أحمد"، هو الحاج أحمد خشّاب، أبو نبيل، (84 عاماً)، لم يترك أرضه ولا بستانه، لم ينزح ولم يسافر عندما فتح الغرب أبوابه لإخلاء الجنوب من أهله، وقد فضّل أن يبقى ليعتاش من فيض التراب، فأضحى قصّة كلّ جنوبي ناضل بكلِّ ما يملك، عندما كان الصمود أكبر وجوه المقاومة، والهرب أقصر الطرق نحو الهدوء أو النجاة!

وهنا يأتي السؤال البديهي: ما الذي أجبره على بناء بيته في موقعٍ مقابلٍ لمواقع العدو؟ وكيف لم يخَفْ من التواجد هناك يوميّاً في بستانه، في وقت كان معظم سكّان المنطقة يتحاشون المرور بالقرب من ذلك "المنعطف" الذي تنهمر عليه رصاصات الغدر في كلّ الأوقات؟ ولماذا لم يشترِ بطاقة هجرة كانت تُمنح بالمجّان لأهالي المنصوري وجوارها، فيسافر ويسكن بلاداً لا تعرف أصوات المدفعيّة ولا ضربات "الهاون"، مثلما سافر معظم الأهالي نحو بلاد الاغتراب؟

* الأرض أرضنا
في قرية المنصوري (قضاء صور)، وفي موقعٍ عالٍ مطلٍّ على البحر والمنطقة بأسرها، كان أحمد خشّاب يملك أرضاً ذات مساحةٍ كبيرة، ولم يجد سبيلاً غير زراعتها ليعتاش منها ويعيل أمّه مع إخوته الأيتام.
"الأرض أرضنا، تعلّمنا الزراعة منذ نعومة أظفارنا، وما عرفنا غيرها باباً للرزق والعيش الكريم، بالرغم من متاعبها وصعوباتها"، يقول الحاج أحمد خشّاب، ويضيف "كانت مساحة الأرض كبيرة، (أكثر من 30 دونماً)، وكانت مزروعةً بالقمح في بعض أجزائها، والأجزاء الأخرى هي عبارة عن صخور وأشواك". هنا بدأت القصة، عندما قرّر أحمد أن يتّكل على الله ويعمل ليعيل أمّه وأخته؛ لأنّ والده متوفّى، فبدأ بتكسير الحجارة واستصلاح الأرض.

* قصّة البيت المتاخم للموقع
عندما تزوّج أحمد، كانت زوجته تعاني من ربو وحساسيّة قويّة، فأشار عليه الأطباء بترك بيتهم الساحلي، والسكن في بيت عالٍ عن مستوى سطح البحر.
ولأنّ أرضه كانت مناسبة لذلك الهدف، قرّر بناء البيت في الجزء العالي هناك، حتّى لو كان متاخماً للمواقع الإسرائيليّة؛ "لأنّ الأرض أرضي، ولن أتركها"، وبدأت حكاية طويلة لعائلةٍ صار الرصاص جزءاً لا يتجزّأ من يوميّاتها وذكرياتها.
عند بناء أساسات البيت وتشييد الأعمدة والجدران، وضع أحمد "رصاص العدو" في حساباته، فطلب من البنّاء أن يزيد من كثافة الجدران عبر إضافة الحجارة إلى الإسمنت، كي لا يخترقه إلى داخل المنزل. وفي أثناء مرحلة البناء، تعرّض البيت للقصف أكثر من مرّة، ومع هذا بقي مصرّاً على بنائه في تلك البقعة.

* الرصاص لا يقتُل مَن له عُمرٌ
"كانت عمليّات المقاومة كثيرة، فكان الشباب يتحيّنون الفرص ليقصفوا المواقع الإسرائيليّة. وبعد كلّ عمليّة، يبدأ الإسرائيليّون بتنفيس غضبهم على كلّ الأرض أمامهم، فتنهال علينا الرصاصات والقذائف كالمطر، فيركض العمّال ليختبئوا في البيت، فيما أنا في طريق مكشوف، يحيط بي الرصاص دون أن يصيبني. كنت أضطرّ إلى المشي تحت الرصاص قبل أن تبدأ المدفعيّة بالقصف على البستان، إلى حيث أُطلقت الصواريخ، فتصيب ما تصيب من أشجار ومزروعات، أعتمد عليها كي أعيش وأُطعم أولادي. هذه الأحداث كانت تتكرّر مرتين أو ثلاثاً في الأسبوع الواحد".

وعندما انتقلت العائلة للسكن في البيت الجديد عام 1993م، كان الزوّار يحسبون حساب خطورة موقع البيت المعرّض للرصاص والقصف في أيّ لحظة، فكان كثير من الناس يخافون المرور حتّى من أمام ذلك الطريق.
"أحداث كثيرة حصلت معنا، تدلّ على أنّ الرصاصة لا تقتل مَن له في عُمرٌ، فمرّة سقطت قذيفة "هاون"، أصابت العمود الذي يفصل بين بيتنا وبيوت أولاد أخي، فتطاير العمود قطعاً صغيرة ولم يؤذِ أحداً".

* نجونا بأعجوبة
تروي زوجته الحاجة أم نبيل خشّاب، قصة مؤلمة ظلّت جزءاً لا يتجزّأ من ذكرياتهم: "ذات يوم أطلق المقاومون الصواريخ تُجاه موقع العدوّ، فعرفنا عندها أنّ القصف الإسرائيليّ سيبدأ، فقرّرنا النزول إلى الملجأ الذي تحت المنزل، لكنّ ابني رفض ذلك قائلاً: انزلوا وأنا سألحق بكم؛ لأنّه كان قادماً من عمله متعباً ويريد أن يستحمّ ويرتاح. رفضتُ، وبإصرار شديد، النزول إلّا وهو معي، ففي تلك اللحظة حدّثني قلبي بالخطر، شعرت أنّ شيئاً ما سيحدث له، فقام على مضض ونزل معنا. وما إنْ وصلنا إلى الملجأ، سمعنا صوتاً قويّاً؛ ثم بدأت تنهال علينا الاتصالات من أهالي القرية يطمئنّون عن حالنا. كنّا نجيبهم: إنّنا بخير، دون أن نعرف سبب خوفهم هذا. وعندما هدأ القصف وخرجنا من الملجأ، تفاجأنا أنّ بيتنا قد قصف، وأنّ القصف قد أصاب غرفة ابني التي كنّا فيها قبل قليل، فلو كنّا تأخرنا قليلاً، لكنّا صرنا أشلاءً.. نظرتُ إلى البيت وقد صارت جدرانه سوداء من الدخان، وكأنّ حريقاً شبّ فيه، فبدأت أضرب يداً بيد وأبكي، وشعرت بتعب شديد، فإلى أين نمضي؟ وكيف نترك بيتنا؟ والى متى تستمرّ معاناتنا؟ ويوجد مثل هذه القصة الكثير".

يروى لنا "أبو نبيل"، قصة أخرى من قصص نجاته العجيبة قائلاً: "كنتُ، كالعادة، في البستان أعمل مع العامل الذي يساعدني، لكن موقع الأعداء بدأ بإطلاق النار من كلّ حدبٍ وصوب. كنت أتكئ على عصاي، فلا أستطيع الركض، مشيت بكل سرعتي، واختبأت أنا والعامل خلف الصخور، فيما القذائف والرصاص تتساقط دون أن تصيبنا، ثمّ بدأ القصف بمدفعية الـ"الهاون" والدبابات مع الرصاص يتركّز علينا، فعرفت حينها أنّ جنود العدوّ قد ظنّوا أنّنا من المقاومة، فناديت جاري الذي كان يراني عن بعد 200 متر، وطلبت منه أن ينزل إلى موقع قوات الطوارئ "الفيجيّين"، ليخبرهم أنّهم يستهدفون صاحب البستان ليس إلّا، فذهب إليهم بعد أن هدأ الرصاص، واستطاع بصعوبة إقناعهم بأن يتّصلوا بجنود العدوّ ليوقفوا القصف. في اليوم الثاني، جاء الفيجيّون ليستطلعوا المكان، فوجدوا قذيفة كانت قد سقطت إلى جوارنا بأمتار ولم تنفجر. نظر الضابط إليّ بدهشة وقال: كيف ذلك؟ فهذا مغاير لطبيعة عمل القذائف. عندها ابتسمت وقلت له: في الله، فضحك وقال: "إي في الله. أنت لا يريدك الله أن تموت الآن".

* فوق الدمار "فدا المقاومة"
أضرار العائلة لم تقتصر على التوتر والخوف فقط، بل كانت الخسائر الماديّة لا تُعدّ ولا تُحصى، من خسارة شجر مثمر، ومولّد لضخ المياه، "كنّا كلّما تقدّمنا ماديّاً إلى الأمام شبراً واحداً، أعادتنا إسرائيل إلى الخلف أعواماً كثيرة. فنحن مزارعون، ولا نتقاضى التعويض المناسب، فنبيع من أرضنا ونعمل ليل نهار كي نعيش بكرامة ولا نحتاج إلى أحد".

بعد التحرير، ارتاحت العائلة من إسرائيل لستّة أعوام، قبل أن تندلع حرب تموز عام 2006م، ويُدمّر البيت من جديد، وبالكامل. يقول الحاج أحمد: "قمت بمساعدة الشباب وتطوّعت في إخفاء ترسانة صواريخ قرب منزلي الذي قصفته إسرائيل، ودمّرته، ولكن لم يُصِب الترسانة أيّ ضرر. كان هذا أكبر تعويض لي وأكبر نعمة، فالبيت فداء للشباب وللمقاومة".

هكذا، تظل قصّة أبو نبيل وعائلته، بل وكلّ العائلات التي صمَدت في المنصوري والجنوب، على الرغم من كلّ ما تعرّضت له من قصف ومحن، شاهداً على عظمة الصمود الذي يؤنِس جهاد شبانٍ حاربوا ليحيا الوطن.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع