إذا علمنا أن التمسك بالقرآن تكليف أساسي يعطي جميع
الأعمال قيمتها وهويتها الإلهية، وحاولنا أن نبدأ بالتمسك به امتثالاً، نجد أن
بيننا وبينه حجاباً غليظاً وستراً صفيقاً يمنعنا من الإقبال عليه كما طُلب، أو
الاستفادة منه كما وُعِدَ. فهذا الكتاب الإلهي وعدُ اللَّه بالرحمة المطلقة
والهداية الشاملة لكل من تمسك به، فلماذا لا نلاحظ في أنفسنا- ونحن نقرأ القرآن-
حصول الوعد الإلهي والأثر النوراني؟!
هل أن هذا القرآن الذي بين أيدينا هو غير القرآن الحقيقي؟
أم هل أن وعد اللَّه يمكن أن يُخلف؟ أم ماذا؟!
وإن التدبُّر في مثل هذه
الأسئلة يقود المتبصِّر إلى أصل المشكلة، وهو أن هناك عوامل نفسية فينا تمنعنا من
الاستفادة الموعودة والفيوضات المتصلة. ولا يجوز أن نلقي باللائمة على القرآن
المحفوظ المصون أو أن نسيء الظن برب العالمين، ونحن أدرى بأنفسنا وأعلم بضمائرنا من
غيرنا!
وحيث يحصل مثل هذا الشعور بالتقصير والاعتراف بالاحتجاب، فعلى السالك أن ينهض
لإزالة الموانع التي تقف سداً بينه وبين حقائق القرآن وفيوضاته الكبرى، ويقوم بعزم
أكيد لإصلاح ذاته التي هجرت وحي اللَّه المنزل الذي تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق
الأرض وتزول الجبال.
ويذكر لنا الإمام الخميني سلام اللَّه عليه في كتابه المعروف بالآداب المعنوية
للصلاة مجموعة من الحجب المعنوية حيث يقول: "فاللازم على المتعلم والمستفيد من كتاب
اللَّه أن يجري أدباً آخر من الآداب المهمة حتى تحصل الاستفادة وهو رفع موانع
الاستفادة، ونحن نعبر عنها بالحجب بين المستفيد والقرآن، وهذه الحجب كثيرة نشير إلى
بعضها" (الآداب المعنوية):
1- حجاب الاستغناء.
2- حجاب الآراء الفاسدة.
3- حجاب قصر الاستفادة على ما ذكره بعض العلماء.
4- حجاب المعاصي والكدورات.
5- حجاب حب الدنيا.
وبما أن معرفة حقيقة
وطبيعة هذه الحجب تساهم بصورة كبيرة في إزالتها سنبين- إن شاء اللَّه- ما يتعلق بكل
منها على نحو التفصيل مستفيدين بالدرجة الأساسية مما كتبه سيد العرفاء في عصرنا
وشهيد الحق والإسلام روح اللَّه الموسوي رفع اللَّه في العليين درجاته.
1- حجاب رؤية النفس مستغنية:
فهذا من المكائد الأساسية المهمة للشيطان حيث أنه يزين للإنسان دائماً الكمالات
الموهومة ويقنعه بما فيه ويسقط من عينه كل شيء سوى ما عنده. مثلاً يقنع أهل التجويد
يعلمهم إلى حد تسقط من أعينهم جميع العلوم الأخرى. أو أنه يرضي أصحاب الأدب بما
عندهم ويشغل أهل التفاسير المتعارفة بوجوه القراءات والآراء المختلفة لعلماء اللغة.
بل أنه يحبس الفيلسوف أو الحكيم والعارف الاصطلاحيين في الغليظ من حجاب المصطلحات
والمفاهيم.
إن التدبُّر في نفس القرآن الكريم يبين فساد هذا الحجاب وخطورته، فالأنبياء العظام
والأولياء الكرام الذين ورد ذكرهم في طي آياته ما اقتنعوا يوماً بما وصلوا إليه
بالرغم من المقام الشامخ الذي كانوا عليه.
2- حجاب الآراء الفاسدة والمذاهب الباطلة:
منذ صدر الإسلام وحتى يومنا هذا والتحريفات المتعمدة أو المغفلة تنصب على كتاب
اللَّه، ويعرض كل تيار بضاعته الكاسدة في أسواق المسلمين لتتبعه فرقة إلى النار
وبئس المصير. فالقرآن كان وما زال أقدس شيء في نظر المسلمين، وإن الاصطياد الفعّال
للنفوس الحائرة يجد في تأويل وتحريف القرآن أفضل وسيلة.
ومن جانب آخر، ونتيجة سوء استعداد البعض مع التبعية العمياء والتقليد ينشأ هذا
الحجاب الذي يصبح مانعاً كبيراً من الاستفادة. فإذا رسخ في قلوبنا اعتقاد بمجرد
الاستماع من الأب أو الأم أو من بعض جهلة أهل المنبر تكون هذه العقيدة حاجبة بيننا
وبين الآيات الشريفة الإلهية. فإذا وردت آلاف الآيات التي تخالف هذه العقيدة فإننا
نصرفها عن معناها أو لا ننظر فيها نظر الفهم والتدبُّر.
فعلى سبيل المثال: قد وردت الآيات الكثيرة الراجعة إلى لقاء اللَّه ومعرفة اللَّه.
فبمجرد ما نشأت عقيدة في هذا المجال وانتشرت بين العوام وهي تقول بأن باب معرفة
اللَّه مسدود كلياً فإما أن يؤولوا تلك الآيات، وإما لا يدخلون في هذا الميدان أصلاً.
فمما يوجب الأسف الشديد حقاً أن باباً من المعرفة الذي يمكن أن يقال عنه بأنه غاية
بعثة الأنبياء ومنتهى مطلوب الأولياء قد سدّوه على الناس بحيث أصبح التفوه به محض
الكفر وصرف الزندقة!!
3- حجاب "شبهة التفسير بالرأي":
ومن الحجب المانعة من الاستفادة من هذه الصحيفة النورانية الاعتقاد بأنه ليس لأحد
حق الاستفادة من القرآن الكريم إلا بما كتبه المفسّرون أو فهموه. وقد اشتبه على
الناس التفكُّر والتدبُّر في الآيات الشريفة بالتفسير بالرأي الذي جاء المنع عنه في
الروايات: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار".
وبواسطة هذا الرأي الفاسد والعقيدة الباطلة جعلوا القرآن عارياً من جميع أوجه
الاستفادة واتخذوه مهجوراً بالكلية، في حال أن الاستفادات الأخلاقية والإيمانية
والعرفانية لا ربط لها بالتفسير، فكيف بالتفسير بالرأي. فمثلاً إذا استفاد أحدنا من
قوله تعالى حاكياً عن النبي موسى عليه الصلاة والسلام:
﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْدًا﴾
التواضع للأستاذ والمربي وضرورة تحصيل الرشد من التعلم لا يكون قد
فسّر القرآن أو فسّره برأيه. فأي ربط لهذا بالتفسير حتى يسمّى بالتفسير بالرأي أو
لا يسمّى؟!
بالإضافة إلى أن في التفسير بالرأي كلاماً للإمام الخميني قدس سره يقول فيه أنه لا
يرتبط بآيات المعارف والعلوم العقلية التي توافق الموازين البرهانية، أو بالآيات
الأخلاقية. فمن المحتمل. والكلام للإمام. بل من المظنون أن التفسير بالرأي الذي ورد
النهي عنه راجع إلى آيات الأحكام الشرعية التي تقصر عنها أيدي الآراء والعقول ولا
بد من أن تؤخذ (بصرف لتعبُّد والانقياد) من خزان الوحي ومهابط ملائكة اللَّه.
إذا اعتقد أحدنا بمثل هذه الشبهة فإنه سيحرم نفسه من الاستفادة الحقيقية، ويكون
مثالاً لقوله تعالى:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾
4- حجاب المعاصي والذنوب:
فليعلم أن لكل عمل من الأعمال- صالحها أو سيئها- صورة في عالم الملكوت تتناسب معه،
وله صورة في النفس أيضاً. فإما النورانية في القلب أو الكدورة والظلمانية. فإذا
ارتكب المرء المعاصي وتمادى في الذنوب فإن قلبه سيصبح مدنساً ولن يكون وعاءً
للحقائق الغيبية ويقع بالتدريج تحت سلطة الشيطان ويكون المتصرّف في مملكة الروح
إبليس. وعندها تصبح سائر القوى الأخرى- كالسمع والبصر- تحت تصرف هذا الخبيث وينسد
السمع عن المعارف والمواعظ الإلهية، ولن ترى العين الآيات الباهرة وتعمى عن الحق
وآثاره، كما قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ
قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ
آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُون﴾َ
إن مهجورية القرآن لها مراتب كثيرة لا تحصى، ولعلنا متصفون بالعمدة منها. أترى إننا
إذا جلّدنا هذه الصحيفة الإلهية جلداً نظيفاً وقيماً وعند قراءتها أو الاستخارة بها
قبلناها ووضعناها على أعيننا ما اتخذناه مهجوراً؟!
الإمام الخميني
إن القلب مرآة انعكاس أنوار القرآن وحقائقها، فإذا كان متكدراً بظلمة الذنوب
ومحجوباً بحجاب المعاصي لن يرى من القرآن إلا الألفاظ والحروف، بل قد يؤدي هذا
الأمر إلى عدم رؤية القرآن كلياً.
5- حجاب حب الدنيا:
ومن الحجب الغليظة التي هي ستر صفيق بيننا وبين عارف القرآن ومواعظه: حب الدنيا.
هذا الحب يصرف القلب عن القرآن ويجعل تمام همته في الدنيا فيغفل عن ذكر اللَّه.
وكلما ازداد التعلق بالدنيا وأوضاعها ازداد حجاب القلب ضخامة، فينسى صاحبه كل خير
وجمال ولا يرى وجوداً للجمال الحقيقي والكمال الأزلي.
فقلب الإنسان لا يمكن أن يخلو من حب. وإذا تعلق بالدنيا ورأى لها وجوداً وكمالاً
مقابل وجود اللَّه وكماله، وجعل لشجونها رقصاً لى سويداء قلبه يغفل عن حب الكمال
الأصيل والجمال المطلق. وشيئاً فشيئاً، على أثر هذا الحب لا يبقى في القلب أي حب
للَّه تعالى. لأن حب الدنيا يدفع صاحبه إلى الذنوب: "حب الدنيا رأس كل خطيئة".
وهذه الذنوب تجعل القلب مظلماً وتؤدي إلى سوء العاقبة كما قال تعالى:
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا
بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون﴾
.
ويبقى في الختام أن نذكر أن المهم هو أن نتعرف إلى هذه الحجب في أنفسنا وليس على
صفحات المجلة. لأن أساس كل تغيير وأصل كل تكامل ينبع من الشعور بالتقصير والاعتراف
بالذنب.