نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

التسليم للغيب

الشيخ كاظم ياسين


انطلق جبرائيل عليه السلام يحمل إبراهيم وزوجته هاجر وطفلهما إسماعيل عليه السلام، وأخذ يعبر الصحاري والقفار ويترك أماكن الحضارة والمدنية، فلم يكن الغرض إرضاء سارة بإبعاد هاجر، إذ كان يكفي من أجل ذلك عدة كيلومترات، ولكن الغرض كان كامناً في غيب اللَّه عزّ وجل، فقد وصل جبرائيل إلى وادٍ غير ذي زرع، ذي حجارة سوداء صمّاء، ليس فيه ماء ولا كلأ. وهناك، بعد أن تركا هاجر وإسماعيل عادا إلى الأرض المقدسة. والتفت إبراهيم إلى رب العزة قائلاً:
﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ﴿رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.

 كان فرعون يستبد بمصر، وكانت روما ببلاد الشام، وكانت فارس تستبد ببلاد اليمن ما بين النهرين، وكانت الصحراء العربية خارجة عن كل السلطات الاستبدادية في ذلك الزمان وفي الأزمان القادمة، فكان ينبغي أن يولد من ذرية إسماعيل يوماً ما ذلك المولود الذي سوف يستفيد من الفراغ الاستبدادي في شبه الجزيرة العربية، فينطلق بالنور ليعمّ العالم.. وفي ذلك الوادي الأصم كان قد نزل آدم من الجنة، فكأن خريطة الغيب الإلهي كانت تقتضي عودة إبراهيم بولده إسماعيل الذي سوف يتمم رسالة آدم وينقلها إلى البشرية جمعاء بولده محمد صلى الله عليه وآله. لقد استجاب إبراهيم لنداء الغيب هذه المرة ثم استجاب له أخرى بعد أن رفع القواعد من البيت ونادى هلم إلى الحج، فسمعه كل من هم في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة، ثم استجاب له ثالثة حينما جاءه الأمر بذبح ولده، وحيده، وفلذة كبده ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى.وإذا بولده إسماعيل ينجح أيضاً في امتحان التسليم للغيب أيضاً فيجيب والده: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. لقد كان الامتحان صعباً وعسيراً وأشد مما سبقه فقال اللَّه تعالى ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي وضعه في حالة التصميم على ذبحه.

لقد أسلما للَّه تعالى، وهل أبلغ من القبول بذبح الابن عنواناً للتسليم؟! وهذا التسليم بالغيب والتعبد والطاعة للَّه عز وجل هو سر ذلك الطواف بذلك الحجر!! فعن علي عليه السلام أن قال: "ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً وأقل نتائق الدنيا مدراً وأضيق بطون الأودية معاشاً وأغلظ محالَ المسلمين مباهاً، بين جبال خشنة ورمال دمثة وعيون وشلة وقرى منقطعة، وأثر من مواضع قطر السماء داثر، ليس يزكو به خف ولا ظلف ولا حافر". فاللَّه عز وجل جعل في الطواف حول الحجر الذي لا يضر ولا ينفع اختباراً وامتحاناً لعباده! ولطالما كان موقف المنافقين والزنادقة هو العجب من الطواف والتقبيل واللمس لحجر لا يضر ولا ينفع.. فكان جواب النبي صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام دائماً هو أن اللَّه تعبدنا بذلك (ابتلاءً عظيماً واختباراً كبيراً وامتحاناً شديداً وتمحيصاً بليغاً وقنوتاً مبيناً). كذلك رمي الجمرات، فإن الذي هناك في الظاهر والذي تراه العين الملكية الجسدية هو جمار من حجارة وطين مرتفعة يجدَّد بناؤها كل عام فأين هو الشيطان؟! إن الشيطان كامن في نفوسنا ورميه في الخارج رمز البراءة منه وإعلانٌ للعداوة له، وقد أمر اللَّه تعالى بسلوك هذا الطريق من النسك وسيلة للبراءة، فكان التسليم بأوامر الغيب الإلهي طريقاً للوصول إلى حقيقة البراءة من الشيطان وإعلان العداء له ﴿فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا، وفي منى وعند الجمرات تتجسد هذه العداوة بمعركة حقيقية وهجوم حقيقي بالفعل على هذا العدو..

وهذا الغيب القاهر وهذا التسليم والاعتماد عليه يكون كفيلاً بنزول الرحمة وزوال الحجب وهو الذي فتح أبواب النصر أمام الجماهير الإسلامية في إيران عندما وضعت يدها في يد اللَّه منفذة لأوامر قائدها الإمام الخميني قدس سره مسلّمة للَّه أمرها. يقول الإمام الخميني قدس سره مشيراً إلى ذلك: "عندما قضي بأن تقوم أمة بهكذا ثورة، فإن ذلك يعني أن يد الغيب كانت حاضرة".. ويقول أيضاً: "إن مع هذه الأمة حماية غيبية، فأنتم بالحماية الغيبية إنما تسيرون قدماً، وإلا فأنتم بأنفسكم لا تملكون الإمكانيات لذلك، إن الذي كان بيد أمتنا إنما هو (اللَّه أكبر) وهو الإيمان، فالإيمان ونداء (اللَّه أكبر) هو الذي دفعكم إلى الأمام". لقد وصل النظام الإرهابي البوليسي الذي كان يحكم إيران قبل الثورة لإسلامية إلى أعلى مستويات العتو والظلم والسيطرة على عقول الناس وأفئدتهم حتى كاد الإنسان آنذاك يحسّ بقوة السلطة ومخابراتها هو في داخل بيته.. ولكن الأنوار التي تدفقت إلى تلك النفوس بواسطة روح الإيمان باللَّه التي بثها الإمام الخميني في القلوب قوّت ملايين الإرادات الصغيرة التي تجمعت بسبب الإيمان العام بالغيب الذي ساد الشارع والبيت والمدرسة والجامعة، فانفجرت بحور النور الهادر لتجرف الظلام دفعة واحدة.

والذي يقرأ كلمات الإمام في مختلف مجالات الحياة ومفرداتها يجد أن الإمام يعيد ربط الأمة دائماً بالغيب الإلهي وبالإمدادات الغيبية وخصوصاً في الأيام الأولى للانتقال من نظام التبعية للآخرين إلى نظام الحرية والاستقلال. يقول الإمام الخميني قدس سره: "أولئك الذين لا يهتمون بالمعنويات ألا ينتبهون من سباتهم؟ ألا يؤمنون بهذا الغيب؟ من الذي أسقط مروحيات السيد كارتر التي أردت غزو إيران؟ أنحن الذين أسقطناها؟ الرمال هي التي أسقطتها، لقد كانت الرمال مأمورة من اللَّه، ليجربوا ثانية"!! والذي أمر الرياح أن تسقط مروحيات الشيطان الأكبر في صحراء طبس، أمر العتمة أن تشتد سواداً وأن تسقط مروحيات ربيبته إسرائيل في بلادنا حينما كانت تنفذ عدوانها وغدرها في الليل.. إنه الغيب أيضاً، ذلك الكنز المعنوي الهائل والنبع الفيّاض الذي يتدفق في قلوب رجال المقاومة الإسلامية في لبنان وحزبها الرائد حزب اللَّه. فمنذ اللحظات الأولى لتأسيس المقاومة وحزبها كان التسليم بالغيب والثقة المطلقة باللَّه قوام العمل وأساسه، حتى كاد الرجال يُتَّهمون بالجنون والتهور والاستهتار بقوة العدو، وحتى كادت حكمة الضعف والخور والجبن وحساب كل الحسابات لا تقاوم العين المخرز تسيطر على العقول والقلوب.. ولكن رجال المقاومة تسليماً منهم بغيب اللَّه تعالى ووعده بالنصر شرعوا الجدران برؤوسهم الغضّة الشابة الطرية واقتحموا المخرز بعيونهم المضيئة الباكية في جوف الليل في عبادة اللَّه، وتحدوا بصدورهم العارية فولاذ وأسلحة إسرائيل وإرهابها وجبروتها..

وكما قال تعالى لموسى عليه السلام: ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. قالوا كنا في الأيام الأولى وقبل الحصول على التقنيات العالية في توجيه المدفعية والصواريخ نستخير اللَّه تعال على الطول والعرض والارتفاع وجهة القذيفة!! وكنا نزرع العبوة ونرصد ونكمن ونقتحم ونواجه عدواً يفوقنا آلاف الأضعاف عدّة وعدداً مسلمين للغيب غير مبالين بحياة أو موت. فأنزل اللَّه تعالى علينا النصر وعلى عدونا الهزيمة والخذلان. وسوف يجد القارئ في كتابنا "قصص الأحرار" بأجزائه الأربعة الكثير من الوقائع التي اعتمد فيها مجاهدو المقاومة الإسلامية التسليم بالغيب والإيمان باللَّه تعالى وبنصره أساساً معنوياً للمواجهة مع إسرائيل.. مع أن الذي ذكرناه في هذه الكتب لا يساوي كمية قطرةٍ من بحر لم نستطع الإحاطة به وبذكره..

وهكذا كان الإيمان بالغيب أساساً إلهياً جعله اللَّه تعالى شرطاً للإيمان فوصف المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب في الآية 3 من سورة البقرة. وجعل التسليم بهذا الغيب ملاك طاعته عندما أمر آدم بأن لا يأكل من الشجرة، وعندما أمر الملائكة بالسجود لآدم وعندما أمر إبراهيم بذبح ولده إسماعيل، وعندما نصب لنا حجراً ووضعه في وادٍ مقفر في صحراء قاحلة ثم أمرنا بأن نطوّف حوله تذللاً للَّه، ثم أمرنا أن نرمي حجارة هي رمز للشيطان، ثم أمرنا أن نقدم على الجهاد والتضحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن نتوكل عليه ونعتمد على نصره بالغيب في إيران ولبنان وفلسطين وفي كل مكان.. في سلسلة واحدة متصلة منذ آدم إلى يومنا هذا..

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع