نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الحوراء زينب: مستودع الأسرار الإلهية



لا يمكن للباحث المتعمق في السيرة الحسينية أن يفهم حركة الإمام الحسين عليه السلام وثورته ما لم يتعرّف على شريكته في الثورة، عنيت بها السيدة الحوراء زينب بنت أمير المؤمنين عليهما السلام.
فمن هي هذه السيدة الجليلة، التي زاحمت الأئمة عليهم السلام في مقاماتهم، حتى قال الشاعر في حقها، ونعم ما قال:


بأبي التي ورثت مصائب أمها
فغدت تقابلها بصير أبيها؟

هي زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبيطالب عليهما السلام، أمها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولدت قبل وفاة جدها صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين في شهر جمادي الأولى من السنة السادسة للهجرة، "أو الخامسة" ونشأت في ذلك البيت الطاهر نشأة حسنة كاملة فاضلة عالمة، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
تزوجت من ابن عمها عبد الله بن جعفر فولدت له أربعة أبناء وبنتاً وهم: محمد، علي، عباس، وعون الأكبر، أما البنت فكانت تسمى أم كلثوم.
جمعت فيها عليها السلام من صفات الجلال والجمال ما لم يُشهد له مثيلٌ.

قال بعض الأفاضل واصفاً إياها:
"السيدة الطاهرة الزكية بنت الإمام علي بن أبي طالب وشقيقة ريحانتيه لها أشرف نسب وأجل حسب وأكمل وأطهر قلب. فكأنها صيغت في قالب صمّخ بعطر الفضائل. فالمستجلي آثارها يتمثل أمام عينيه رمز الحق. رمز الفضيلة. رمز الشجاعة. رمز المروءة. وفصاحة اللسان. وقوة الجنان. مثال الزهد والورع. مثال العفاف والشهامة".

* زينب في بعض فضائلها
أما العفاف فقد بلغت غايته حتى سميت عقيلة بني هاشم والعقيلة عند العرب هي المخدرة الكريمة، لكن تخدر زينب عليها السلام لم يشابهه تخدر امرأة، ففي بعض الليالي كان أمير المؤمنين والحسنان وزينب عليهم السلام في زيارة قبر فاطمة عليها السلام، ولما طلب أمير المؤمنين من الحسنين أن يوصلاها إلى البيت، أوصاهما أن يطفئا السراج في الطريق حتى لا يرى أجنبي ظلها. وكان ابن عباس عندما يروي عنها يقول: "حدثتني عقيلتنا زينب بنت علي".

أما العبادة فكانت ثانية أمها الزهراء في العبادة، وكانت تؤدي نوافل الليل كاملة في كل أوقاتها، ولم تتركها حتى ليلة السبي العظيمة على قلبها، فكانت تصليها وهي على ظهر الراحلة، ويكفي دلالة على عظم قدرها أن الحسين عليه السلام عندما ودع عياله وداعه الأخير يوم عاشوراء قال لها: يا أختاه لا تنسيني في نافلة الليل.

أما العلم فقد استقته من ينبوع النبوة وفيض الإمامة، وكانت كما قال في حقه الإمام السجاد عليه السلام: أنت يا عمة عالمة غير معلمة فهمة غير مفهمة، وقد استفاد العلماء عصمتها من خلال هذا الحديث الشريف فهو يؤكد أنها ممن يتلقى العلم اللدني من الله مباشرة دون حاجة إلى تعلم أو تفهيم وهذه مرتبة من مراتب الإمامة والعصمة، وبذلك تصلح أن تكون مستودعاً للأسرار الإلهية.

ففي الحديث أن علياً بن الحسين عليه السلام لما نظر إلى أهله مجزرين وبينهم مهجة الزهراء بحالة تذيب القلوب اشتد قلقه وكادت تزهق روحه، فلما تبينت ذلك منه زينب أخذت تصبّره قائلة: "مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وأخوتي، فوالله أن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك. ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة والجسوم المضرجة فيوارونها، وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على مرور الليالي والأيام وليجتهدنّ أئمة الكفر وإشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا علواً".
فلاحظ عزيزي القارىء قولها "فوالله أن هذا لعهد من الله" تعرف ما رمناه من استيداع الأسرار الإلهية عندها.

قال الشيخ المامقاني في "تنقيح المقال": زينب في الصبر والتقوى وقوة الإيمان والثبات وحيدة، وهي في الفصاحة والبلاغة كأنها تفرغ عن أمير المؤمنين كما لا يخفى على من أمعن النظر في خطبتها، ولو قلنا بعصمتها لم يكن لأحد أن ينكر إن كان عارفاً بأحوالها في الطف وما بعده، كيف ولولا ذلك لما حمّلها الحسين عليه السلام مقداراً من ثقل الإمامة أيام مرض السجاد، وما أوصى إليها بجعلة من وصاياها، ولما أنابها السجاد عليه السلام نيابة خاصة في بيان الأحكام وجملة أخرى من آثار الولاية.

أما صبرها وشجاعتها فكانت وحيدة في ذلك، فإذا قيل "أم المصائب" انصرف إليها وقال فيها الشاعر:

بأبي التي ورثت مصائب أمها فغدت تقابلها بصبر أبيها

وينبيك عن شجاعتها مواقفها المليئة بالبطولة والشجاعة يوم وقعت الواقعة بين الحق والباطل في كربلاء.

* من مواقفها البطولية
لما حُملت إلى ابن زياد وأدخلت عليه، تنكرت وجلست جانباً تحف بها إماؤها. فقال ابن زياد: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه. فقال ذلك ثلاثاً وهي لا تكلمه فقال بعض أمائه:
هذه زينب بنت فاطمة. فقال لها عبيد الله: الحمد الله الذي فضحكم وقتلكم واكذب أحدوثتكم.

فقالت عليها السلام: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمدصلى الله عليه وآله وسلم وطهرنا تطهيراً لا كما تقول أنت. إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر قال ابن زياد: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا خيراً هؤلاء قوم كُتب عليهم القتل فبروزا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلج يومئذٍ. ثكلتك أمك يا ابن مرجانة.
فغضب اللعين ابن زياد واستشاط فقال له عمرو بن حريث: أصلح الله الأمير أنها امرأة، ولا تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها.

ولمَّا همّ اللعين بقتل الإمام السجاد تعلقت به زينب عليها السلام وقالت يا ابن زياد حسبك منا، أما رويت من دمائنا وهل أبقيت منا أحداً؟ ثم اعتنقته وقالت: والله لا أفارقه فإن قتلته فاقتلني معه. فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة ثم قال: عجباً للرحم والله أني لأظنها ودت أني قتلتها معه. دعوه فإني أراه لما به مشغولاً.

أما قمة شجاعتها فقد تجلّت في الشام في محضر الطاغية يزيد. يروي المؤرخون أنه عند وصول السبايا إلى الشام كان يزيد قد جمع من بمحضره من أهل الشام، فقام رجل منهم ونظر إلى وصيفة من بنات الرسالة فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه، يعني فاطمة بنت علي، فأرعدت فاطمة وفرقت وظنت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختها زينب. فقالت زينب عليها السلام: كذبت والله ولؤمت. ما ذلك لك وله. فغضب يزيد وقال: إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت. فقالت: كلا، والله ما جوّز الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. فقال يزيد: إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت عليها السلام: بدين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأخوك وجدك. فقال يزيد وقد استطار غيظاً: كذبت يا عدوة الله.

فقالت عليها السلام: أنت أمير متسلط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك. فاستحيى يزيد وسكت. ولما أعاد الشامي قوله قال له: اعزب. وهبّ الله لك حتفاً قاضياً.
ولما أمر يزيد برأس الحسين عليه السلام فأبرز في طشت، فجعل ينكث ثناياه بقضيب بيده وهو يقول: ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل..

إلى آخر الأبيات، قامت عليها السلام وقالت:
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين صدق الله سبحانه حيث يقول: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون "الروم/10"، أظننت يا يزيد أنه حين أخذت علينا بأطراف الأرض وأكناف السماء فأصبحنا نساق كما يساق الأسارى أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة. وأن هذا لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان فرحاً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والأمور متسقة..

فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: ﴿ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين "آل عمران/178" أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك نساءك وإماءك وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قد هتكت ستورهن مكتبئات تحدو بهن الأباعر ويحدو بهن الأعادي من بلد إلى بلد... تقول ليت أشياخي ببدر شهدوا غير متأثم ولا مستعظم وأنت تنكث ثنايا أبي عبد اللَّه بمخصرتك... والله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، وسترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم برغمك، وعترته ولحمته في حظيرة القدس، يوم يجمع الله شملهم ملمومين من الشعث وهو قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ_ "آل عمران/169"

 وسيعلم من بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إذا كان الحكَم الله والخصم محمد، وجوارحك شاهدة عليك، أيكم شر مكاناً وأضعف جنداً. مع أني والله يا عدو الله وابن عدوه استصغر قدرك واستعظم تقريعك، أن العيون عبرى والصدور حرى.. فلئن اتخذتنا مغنماً فلتجدن وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك. وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا تدحض عنك عارهاً، وهل رأيك إلاَّ فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين. فالحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة... وحسبنا الله ونعم الوكيل.

هكذا كانت زينب عليها السلام الله، شريكة الحسين في ثورته، وصاحبة اللواء بعد شهادته. وأحسبك- عزيزي القارىء- قد تفطنت إلى سر عظيم في بقاء عاشوراء الحسين عليه السلام وديمومتها على مر السنين وازديادها إشراقاً ونصوعاً بين المسلمين كافة، بل وكل المستضعفين والمظلومين من أي قومية كانوا ولأية نحلة انتموا، إن أحد أهم أسباب هذه الديمومة هو هذا الصوت الزينبي الهادر الذي قرع آذان المسلمين في كل موقف من مواقف السبي. في كربلاء، وفي الكوفة وفي الشام وفي كل مكان.

لقد استطاعت زينب عليها السلام بقوة إيمانها ووراثتها خصال الإمامة من أبيها وأخويها من جهة، ومن خلال غباء يزيد الذي أمر بحملها وسائر السبايا إلى الشام من جهة أخرى، أن توصل الصوت العلوي- صوت الإسلام المحمدي الأصيل- إلى قلب العاصمة الأموية، إلى قلب الشام، هذا الصوت الذي لم يستطع أمير المؤمنين عليه السلام إيصاله، وما هذا إلا قبس من نور عظمة زينب. فالسلام عليها يوم ولدت ويوم سبيت ويوم. توفيت ويوم تبعث حيةٌ.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات: