حنان الموسوي
عند مدخل الهرمل رنّ جهاز «البايجر». بخفّةٍ غمست يدي داخل الحقيبة لإطفائه، لكنّ رنينه استمرّ مهما ضغطت على الأزرار. رفعته قليلاً لأقرأ ما ظهر على الشاشة، فلاحظت سخونة مدّخرته، وسرعان ما انفجر!
* جرحٌ وإيثار
ظنّ أخي أنّ هاتفي قد انفجر، وقد بدا الهلع من نبرة صوته، فهدّأت من روعه بنفسٍ مطمئنة. بعد استغاثتي بصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف والسيّدة الزهراء عليها السلام، أخبرته أنّ «البايجر» انفجر، وأعطيته هاتفي ليتواصل مع باقي الإخوة كي يحذّرهم من أجهزتهم. سألته عن يديّ فلم يخبرني عن حالتهما، ولكن بلمسةٍ رشيقةٍ أدركت أنّ معظم أصابعي بُترت. كانت الوجهة الأولى إلى المستشفى الحكوميّ، حيث قاموا بالإسعافات الأوليّة وضمّدوا جراحي، ومنها انتقلت إلى مستشفى البتول عليها السلام عبر إسعاف الهيئة الصحيّة.
عند المدخل، سمعت أفراداً من الطاقم الطبّيّ يتباحثون حول من سيدخل غرفة العمليّات أوّلاً: أنا أم أختٌ أصيبت بالانفجار أيضاً؟ فقاطعتهم طالباً منهم إدخالها قبلي لأنّ حالتها حرجة تستدعي خضوعها فوراً للجراحة.
* جراحاتٌ وسفر
في غرفة العمليّات، فُرّغت عيني اليمنى وأُغلقت، واستُخرجت الشظايا من اليسرى، وضُمّدت الجروح مكان أصابعي التي ارتمت هزيلةً عن يديّ في سيّارة الإسعاف، لأنّها كانت معلّقة بالجلد. كانت استغاثاتي بأهل البيت عليهم السلام تشدّ نواحي ثغري، فلهجت بترديد اللطميّات الحسينيّة باستمرار. بعدها، نُقِلتُ إلى مستشفى المرتضى في بعلبك، إذ مكثت فيها يوماً، ثمّ غادرت إلى مستشفى المجتهد في سوريا لأمكث فيه ثلاثة أيّام قاموا خلالها بتركيب عينٍ زجاجيّةٍ في جوف العين اليمنى، وضمّدوا جرحاً عميقاً في فخذي. انتقلت إلى إيران عبر مطار اللاذقيّة، ووصلت إلى مستشفى بقيّة الله في طهران. هناك، خضعت لعمليّة ترميم لليد اليسرى، وزراعة جلد من البطن، وكذلك تنظيف جرح فخذي الأيسر، ونزع ما تبقّى من شظايا في العين اليسرى.
* استبشرت خيراً
غادرت أمّي المنزل في حالة من الدهشة تريد الوصول إلى مستشفى البتول عليها السلام. استوقفتها إحدى الجارات مستفسرة عن سرّ لونها المخطوف، فأخبرتها أنّها ذاهبة إلى المستشفى بعدما تبلّغت بشهادتي، فعرضت عليها أن تقلّها إلى هناك. لكنّ أمّي أصرّت بشكلٍ غير واعٍ على الذهاب سيراً، لولا أنّ الجارة بالغت في الإلحاح عليها حتّى استقلّت السيّارة.
نزحَ عنها الاضطراب المرعب حين راودتها تفاصيل الرؤيا التي شاهدتها قبل فترة؛ أنّ المنزل دُمّر بغارة غادرةٍ لكنّ غرفتي كانت الوحيدة السالمة، فاستبشرت.
أمّا عن الثقة التي تملّكتها، فكان الله على أنفاسها رقيباً. حاول ابن عمّي طمأنتها أنّني بخير وأنّ إصابتي طفيفة، إذ فقدت بعض أصابعي وجُرحت يداي، لكنّها ردّت قائلة: «إنّ إصابة حيدر في يديه وعينيه فداء لأبي الفضل العبّاس عليه السلام».
أَخمدت أحاسيسها وحبست دمعتها، كانت على شفا حفرةٍ من فقدان الوعي حتّى رأتني «رحمنٌ رحيمٌ ربُّ العالمين»، همست بعد أوجاع احتضارٍ سكنتها، وانهالت تقبّل قدميّ.
* طريق الله
منذ لحظة الإصابة، لم يعترني ألمٌ قطّ سوى عند سماعي باستشهاد سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، فتسلّل الوجع إلى كلّ ذرّةٍ منّي، وبدون وعيٍ صرت أضرب السرير بيديّ المضمّدتين، وعلا الصراخ في المستشفى كلّها. بعد الانفجار، شعرت أنّ شيئاً في داخلي قد تغيّر، كان الجرحُ الطريق الأقرب إلى الله، فازداد تعلّقي به، وصارت صلاتي ملجأي وسندي. لم تَفُتْني صلاة حتّى في اللحظات الصعبة، أدّيتها في أوّل وقتها وما زالت كلّ سجدة تُرمّم شيئاً ممّا بُتر أو فُقد من جسدي، بينما كلُّ دعاء يُضيء الظلمة في داخلي، ويقتل الشعور بالضعف.
لم أترك للشيطان ثغرة يدخل منها ليُحبط معنوياتي أو يزرع في قلبي اليأس. منذ عودتي من إيران مطلع العام 2025م، أمضي معظم وقتي في البيت، أساعد والدتي في غسل الصحون وسقاية الزرع، كما أرتّب غرفتي بنفسي. وأسهر مع رفاقي الذين صاروا لي عائلة ثانية، نضحك، نحلم، ونُكمل الطريق معاً.
* بصيرةٌ وجهاد
تخلّصت من عبء الحزن الذي أثقل كتفيّ، وأكملت حياتي ببصيرتي متحدّياً الضيق الذي حاول أن يقيّدني، فعدت إلى فرقة الجوّالة في كشّافة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف قائداً كما كنت، أرعاهم ويرعونني، كغصنٍ جميلٍ مورقٍ أتابعهم، حتّى خالوني أبصر. كشمسٍ يتيمةٍ أوحي للجميع بالقدرة، تأثيري في عناصري بات أكبر، وقوّة شخصيّتي ساعدتني لأبدو غير مصاب وراجح العقل.
مرّ على مجزرة «البايجرز» عام وبضعة أشهر، حين بذلت شيئاً من ذاتي فداءً لأبي عبد الله الحسين عليه السلام. يتنامى في داخلي مزيج من الحزن والشكر حيناً، وتأكلني الحسرة أحياناً، فقد حُرمت من نعمة المشاركة العسكريّة، لكنّ عزائي أنّني أُعوّض ذلك بجهاد أسمى. اليوم، أؤدّي تكليفي وقد نلت حبّ الكشفيّين، أعلّمهم احترام الأهل، وقيمة العطاء، ونبل السلوك. يتميّز هذا العمل بهدوئه وعذوبته وجماله وصدقه، فأنا لأجلهم أستمرّ، وباسمهم أزرع الأمل.
* من القلب
رسالتي إلى الناس الخائفين على المقاومة والمتعلّقين بها: ما مررنا به يجب أن يقوّي عقيدتنا ويجعلنا أكثر ثباتاً مهما خضنا من حروب جديدة، كي نصل إلى مبتغانا وأملنا بظهور صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، فالتهديدات تحيط بنا من كلّ الجهات، علينا بالصبر كي تبقى راية الإسلام خفّاقة. يجب الالتفاف حول الأمين العام الشيخ نعيم قاسم (حفظه الله)، فهو من حمل الأمانة جريحةً بعد استشهاد سيّد شهداء الأمّة (رضوان الله عليه)، وبإذن الله سيعبر بنا من نصرٍ إلى آخر، وهو خير خلفٍ لخير سلف. كما أوصيهم بالمحافظة على الصلاة، والمواظبة على قراءة زيارة عاشوراء.
اسم الجريح الجهاديّ: هادي حيدر.
تاريخ الولادة: 1-1-2002م.
تاريخ الإصابة: 17-9-2024م.
نوع الإصابة: فقدان العينين وبتر يد وأصابع.