نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

عقيدة: المعاد والرجوع إلى اللَّه

الشيخ مالك الساحلي


في الحلقة الماضية تحدثنا عن ضرورة الاعتقاد بالمعاد وأهميته في تحديد طريقة سلوك الإنسان ووجهته في الحياة، وقبل تفريع البحث في مسائل المعاد وإقامة الأدلة والبراهين على إثباتها أو نفيها لا بد من توضيح المعنى الصحيح لهذا الأصل الاعتقادي المهم، لأن الفهم الخاطئ للكلمة ـ أي لمعاد ـ أوق الكثيرين في شبهات عديدة تعددت مظاهرها ولكن جوهرها واحد.

* وهم واستغراب
عندما طرح في الكتب الكلامية والعقائدية أن المعاد يعني العودة إلى الحياة، تصوّر المنكرون والمشككون أن المقصود هو عودة الإنسان بعد موته وفنائه كلياً إلى الحياة من جديد، أي إلى حياة أخرى هي نسخة طبق الأصل عن الحياة الدنيوية، ومنشأ هذا التصور الفاسد هو أن حقيقة الإنسان عندهم لا تتعدى هذه الأعضاء التي يتركب منها البدن والتي تتألف بدورها من عدد هائل ومتنوع من الخلايا الحية، والمقصود من حياة الخلايا ـ وبالتالي حياة البدن ـ هو قدرتها على القيام بجملة من الوظائف والنشاطات الفيزيولوجية نتيجة التفاعلات المختلفة فيما بينها.
وبناءً عليه، فإن الإنسان حين يموت يفنى وينعدم كلياً، حيث تضمحل أعضاء بدنه وتتحول عظامه إلى رميم، وتتلاشى آثارها في التراب، ومن الممكن أن تتحول غذاء إلى كائن حي آخر ـ نباتي أو حيواني ـ وتصبح جزءاً من أجزائه وعضواً من أعضائه، بعد كل هذا فكيف يمكن أن يعود نفس الإنسان الأول إلى الحياة من جديد؟ وقد أشار القرآن إلى هذه الشبهة في عدة آيات، منها ما ورد في سورة يس حين قال {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} (يس 78)، أو كما ورد في سورة السجدة الآية 10 في قوله تعالى: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}.

* حقيقة الموت والمعاد
على الرغم من كون هذه الشبهة أقرب إلى الاستبعاد منها إلى الإشكال العلمي المبني على الاستدلال، وقد تعرض لها العلماء والحكماء بالنقد والتفنيد، إلاّ أننا لو أعدنا طرح الموضوع بشكل صحيح فإن أصل الشبهة ينحلّ بالمرة ويُستغنى عن مناقشتها.
فالمعاد هو العودة إلى الحياة، وهذا صحيح، ولكن أي عودة؟ وأي حياة؟ إنها نوع من الحياة يختلق جذرياً عن الحياة الدنيوية في طبيعها وظروفها والقوانين الحاكمة عليها. إنها الحياة عند اللَّه: إما في رحمته ورضوانه وجنته، وإما في عذابه وسخطه ونقمته، والعائد هنا هو روح الإنسان وليس بدنه (لا بمعنى أن بدن الإنسان لا يعاد بل بمعنى أن حقيقة الإنسان وهو قيمته الشخصية بروحه لا ببدنه).

والمطالع لآيات القرآن الكريم يجد بوضوح أن أكثرها تعرض للمعاد على هذه الشاكلة، كأن تقول: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ}، {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ}...
وعلى هذا فالإنسان لا يفنى ولا ينعدم بتحل أعضاء بدنه، وإنما هي روحه المجردة عن المادة تفارق بدنه وترجع إلى بارئها ليجازيها بما عملت، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
فالموت الذي هو أول منازل الآخرة وآخر مراحل الحياة الدنيا ليس بمعنى الزوال والفناء، بل هو ولادة جديدة للإنسان في حياة جديدة، اختلافها عن الحياة الدنيا كاختلاف عالم الرحم الضيق عن عالم الدنيا الرحب الواسع. فالجنين عندما يخرج من رحم أمه لا يفنى ولا يزول وإنما تنتهي مرحلة من مراحل حياته وتبدأ مرحلة جديدة وحياة أخرى في عالم جديد.

ولذلك نجد أن القرآن الكريم يعبر عن الموت بالتوفي حيث يقول تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر ـ 42 ـ). ويقول أيضاً: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (السجدة ـ 11).

وبالتالي فالارتباط الأساسي للمعاد ليس بهذا البدن المتحلل، حتى إذا تلاشى في الأرض نستبعد عودته إلى الحياة ونشكك فيها ثم ننكرها لأن ذلك ينسجم مع رغباتنا وشهواتنا، بل إن هذا الارتباط هو بالروح، الروح التي هي جوهر الإنسان وحقيقته، وهي مجردة عن المادة ولا تزول بزوالها، وإنما تنتقل من دار إلى دار كما في الحديث الشريف.

نعم لكي يكتمل البحث بشكل استدلالي لا بد من إثبات أن حقيقة الإنسان وشخصيته متقومة بالروح لا بالجسد وأن هذه الروح مجردة وليست من لوازم المادة وعوارضها.

* الوحدة الشخصية للإنسان
يعبر الإنسان عن نفسه كموجود واحد ينسب إلى هذا الموجود الواحد (الذي هو نفسه) أفعالاً عديدة فيقول: أنا أكلت، أنا شربت، أنا تعلمت العلم الفلاني منذ سنين، أنا الذي كنت طفلاً يلعب والآن رجلاً يكد ويعمل... كل هذه الأمور تنسب إلى حقيقة واحدة وشخصية حقيقية واحدة، فما هي هذه الحقيقة؟ وما هي هذه الشخصية الواحدة؟ وما هو الملاك في الحفاظ على وحدتها؟ يجيب الماديون على هذا السؤال بأنه ما يحفظ وحدة شخصية الإنسان هو البدن ـ فالبدن نفسه هو الذي ينمو ويكبر في حركة مترابطة منتظمة تحافظ على وحدته.
ولكن الاكتشافات العلمية وجهت ضربة قاصمة لهذه النظرية، فبحسب العلم يتألف البدن من مجموعة من الخلايا، وكل خلية منها في تحول وتبدل مستمرين.

ويؤكد العلم أن الإنسان يتغير بشكل كلِّي مرة كل عدة سنوات، فخلايا الجسم بأجمعها تتغير كل سبع سنوات، ويكون جسم الإنسان في عمر الرابعة عشرة غيره كلياً في عمر السابعة، وعندما يصل إلى سن الحادية والعشرين يكون غير الذي كان في السابعة والرابعة عشرة، وهكذا.
وبهذا الشكل يكون جسم الإنسان فيم عرض التحلل والتبدل الدائم حيث تحل الخلايا الجديدة مكان الخلايا القديمة.

فإذا كانت شخصية الإنسان تتمثل بالبدن، وهذا البدن في تحلل وتبدل دائم، فهذا يعني أن شخصية الإنسان في تبدل دائم، وأنه في سن السابعة ليس هو في السنة الرابعة عشرة، بل يستلزم أن يكون الشخص في كل لحظة غيره في اللحظة الأخرى، لأن الخلايا في حالة موت وولادة في كل لحظة.

وقد أجاب الماديون بأنه صحيح أن الخلايا تتغير باستمرار، ولكن لما كان هذا التغير مترابطاً ومتصلاً مع بعضه البعض، فمن خلال هذا الارتباط والاتصال يحفظ الإنسان وحدته الشخصية.
ولكن هذا الجواب بعيد عن الحق، لأن الوحدة المشار إليها هنا هي وحدة اعتبارية لا حقيقية، فمثل جسم الإنسان مثل نهر جارٍ، إذا نظرت إليه في لحظة ثم نظرت إليه في وقت لاحق في نفس المكان يكون الماء الذي رأيته في المرة الثانية غير الماء في النظرة الأولى. ولكن عندما يتحدث الإنسان عن نفسه في مرحلة الطفلة، والشباب والرجولة، وغيرها فهو يتحدث عن شخصية حقيقية واحدة ومتعددة وهذا بديهي للوجدان.
أما الحكماء الإلهيون فيجيبون عن الملاك الحافظ لوحدة شخصية الإنسان أنه وجود أمل واحد بسيط غير مركب ولا محسوس، لا يتبدل خلال تبدلات المادة وتغيراتها، بل يبقى بعينه خلال مراحل التبدل والتغير ويعمل على انتظام وانسجام الأجزاء والأعضاء التي يتألف منها الجسم، ويعبر عن هذا العامل بشكل عام بـ(الصورة النوعية)، وفي خصوص الكائنات الحية والإنسان بـ(النفس).

وبما أن النفس الإنسانية مجردة (وهذا ما سوف نثبته لاحقاً)، فيمكن أن تبقى هذه النفس بعد أن يتلاشى البدن ويضمحل. وحين تتعلق من جديد بالبدن، يحتفظ الشخص بوحدته كما هو الحال قبل الموت، حيث لم يؤد تبدل مواد البدن وتغيرها إلى تعدد الشخص لانخفاض الملاك في الوحدة الشخصية وهو الروح.

وفي هذا المجال لا بد من إشارة أخيرة وهي أن تركيب الإنسان من الروح والبدن ليس من قبيل التركيب الكيميائي من عنصرين مثل تركيب الماء من الأوكسجين والهيدروجين بحيث لو انفصل أحدهما عن الآخر لانعدم الموجود المركب بصفته كلاً مركباً، بل أن الروح هي العنصر الأصلي والأساس في الإنسان وما دامت باقية فإن إنسانية الإنسان وشخصية الشخص باقية ومحتفظة بنفسها. ومن هنا فإن تغير خلايا البدن وتبدلها لا يضر بوحدة الشخص، لا قبل الموت ولا بعده.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع