نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

فقه القائد: تكافل الأسرة في الإسلام


الشيخ محمد توفيق المقداد


من الواضح أن ترغيب الإسلام لأتباعه بالزواج ليس من أجل تحصيل المتع الجنسية واللذات الجسدية فقط، لأنّ هذا جانب من فوائد الزواج، إلاّ أن هناك منافع أخرى مهمة جداً وأساسية في الحياة البشرية وهي: «إنجاب الأبناء وتكوين الأسرة، للقيام بمهام التربية وتحمُّل مسؤولية الرعاية والعناية بالأبناء وتنشئتهم التنشئة الإسلامية الصالحة التي تؤهلهم للقيام بمسؤولياتهم عندما يكبرون تجاه أسرتهم وتجاه مجتمعهم، والأسرة هي الوصف الذي ينطبق على الأب والأم والأبناء والبنات بما هم مجتمعون لا بما هم أفراد مستقلون.

وللأسرة موقعية متميزة في التشريع الإسلامي كونها المحل الأساس والملجأ الأول للأبناء، الذين يتربون في كنف الوالدين اللذين يسعيان قدر المستطاع من ناحية التربية والتهذيب والتعليم ودلالة الأبناء على ربهم، لينشئوا النشأة الصالحة التي تجعلهم عندما يبلغون مبلغ الرجال قادرين على حمل المسؤولية تجاه اللَّه وتجاه أسرتهم.

وتكافل الأسرة هو عبارة عن التضامن والتكافل بين أفرادها تحت نظارة ورعاية رب الأسرة «الوالد» الذي أنيطت به المسؤولية الأساس لرعاية سائر الأفراد بالتعاون الكامل والوثيق مع الأم التي تتعب وتربي وتتحمل مسؤوليات الأبناء والبيت حال غياب الزوج في عمله وجده وكده من أجل تحصيل لقمة العيش له ولهم جميعاً.

ولتكافل الأسرة وتضامنها شروط لا بد من توفرها، لأنه بدونها لن تكون الأسرة متراصة ومتضامنة، ومن هذه الشروط:
أولاً: حسن قيادة رب الأسرة لعائلته: إذ من المعروف أن الأب هو المسؤول الأول والأخير عن حسن سير الأمور داخل الأسرة، وبصلاحه ورعايته وحكمته وحسن تدبيره يمكن أن يسير بعائلته بطريقة جيدة تحقق الألفة والمحبة والتفاعل المطلوب طبقاً للحديث القائل (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته). ويكفي للدّلالة على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من الآيات مثل قوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} أو {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} وكذلك {وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة}.

لذا من المفروض برب الأسرة أن يكون رحيماً حليماً وذا معشر جيد مع عائلته كما ورد الحديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنه ليُكتَب جباراً ولا يملك إلاّ أهل بيته)، أو كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام (لا يكن أهلك أشقى الخلق بك). وكذلك ما ورد عن الصادق في وصف تعامل الرجل مع أهل بيته حيث يقول عليه السلام: (إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلالٍ يتكلفها وإن لم يكن في طبعه ذلك: معاشرة جميلة، وسعة بتقدير، وغيرة بتحصن).


وهذه الطّريقة الحسنة من رب الأسرة في التعامل كفيلة بتحقيق الأجواء الوفاقية وزيادة أواصر اللحمة والقربة والرحمة بين أفراد العائلة مما يجعل من حياة الجميع حياة سعيدة هانئة يستطيع كل فرد فيها أن يمارس حياته بحرية ومسؤولية.

ثانياً: مسؤولية الأم: ولا شك أن الأم لها دور أساس في الأسرة ككل، إذ أن الوظائف المناطة بها لا تقل أهمية عن وظيفة الرجل، إذ أن مهامها الأساسية حفظ الأبناء ورعايتهم والقيام بكافة شؤونهم، وهذا كله يتطلب منها صبراً وأناة وقدرة على التحمل واستيعاب ما يمكن أن يصدر عن الأبناء من مشاكل ومشاكسات، فعلى الأم التحلي بالصبر حتى تستطيع التكيف مع الأبناء وحتى تستميلهم إليها ليشعروا بحنانها وعطفها ورعايتها، وهذا لا شك له الأثر الكبير على نفسية أولئك الأبناء الذين سيشعرون بالراحة والأمان والثقة بالأم، مما يؤدي إلى زيادة القرب وقوة رابطة الرحمية فيما بينها وبينهم، ولأجل هذه الوظيفة الأساسية للأم ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (الجنة تحت أقدام الأمهات) تقديراً لجهودها وتضحياتها وتفانيها في خدمة أبنائها والسهر على راحتهم وصحتهم وهنائهم.
بعد انتهاء هذه المرحلة الصعبة من التربية والرعاية يصل الأولاد إلى السن التي يصبحون فيها مؤهلين لتحمل المسؤولية إلى الجانب الأهل، وهنا عندما نعود إلى القرآن الكريم نجد العديد من الآيات التي توصي الأبناء جميعاً بضرورة مراعاة حال الأهل، وأن يعيشوا معهم بطريقة تتم عن الشعور المتبادل بالحب الاحترام والتقدير والمساعدة في حمل مسؤولية إدارة المنزل الأسري ككل للتخفيف عن الأب والأم اللذين بذلا الكثير في سبيل أبنائهم طوال سنوات، ومما ورد قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً} {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً}.
حيث تشير هذه الآية الكريمة إلى أن من بر الوالدين أن يكون ولدهما رحيماً بهما مشفقاً عليهما ومقدراً للتعب والسهر والعناء الذي تكبده كلاهما حتى وصل ولدهما إلى مرحلة البلوغ والرجولة أو الأنوثة، وأن هذه الجهود يجب أن تكون محل الاعتبار والتقدير عند الولد ذكراً كان أو أنثى.

والتكافل الأسري بلا شك متقوم بشدة العلاقة بين الآباء والأبناء، باعتبار أن الأبناء هم فلذات أكباد الآباء، والأبناء ينبغي أن ينظروا إليهم على أنهم الواسطة في خلقهم ووجودهم، وهذا ما ينتج عن أن يحب الأب أبناءه وبالتالي حب الأبناء للآباء، وهذا كله يؤدي إلى حالات من التفاعل العاطفي والروحي والنفسي والمعنوي ويجعل كل فرد من أفراد الأسرة يتأثر بالآخرين سلباً أو إيجاباً فيفرح الجميع لفرح أحدهم ويحزن الجميع لحزن أحدهم، ولذا ورد في شأن الولد الصالح الذي يكون خير معين وكفيل لوالديه الكثير من الأحاديث مثل (الولد الصالح ريحانة من رياحين الجنة) أو (الولد الصالح ريحانة من اللَّه قسَّمها بين عباده) أو (من سعادة الرجل الولد الصالح).

وفي رواية لافتة للنظر وردت عن نبي اللَّه عيسى عليه السلام (قال: مررت بقبر يُعذب صاحبه، ثم مر به من قابل ـ العام القادم ـ فإذا هو ليس يعذب، فقال: يا رب مررت بهذا القبر عام أول وهو يعذب، ومررت به العام وهو ليس يعذب؟ فأوحى اللَّه جل جلاله إليه: يا روح اللَّه قد أدرك له ولد صالح فأصلح طريقاً وآوى يتيماً فغفرت له بما عمل ابنه).
من هنا نجد في القرآن الكريم أن الأنبياء عليه السلام كانوا يدعون ربهم لأن يهبهم الأولاد الصالحين مثل قوله تعالى: {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء} أو {رب هب لي من الصالحين} أو {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين}.

وقد ورد في تكافل الأسرة وتضامنها بين الآباء والأبناء الكثير من النصوص التي تؤكد على ضرورة حصول هذا الأمر، إما للدافع الفطري الطبيعي الموجود في عمق النفس البشرية بين الآباء والأبناء، أو للدافع الشرعي الذي يأمر بالإحسان إلى الآباء والصبر عليهم ومواساتهم وتحمل المشاق والمتاعب عنهم، لأن الأبناء إن لم يعيشوا هذا التكافل مع آبائهم والتراحم معهم سيكونون من العاقين المنبوذين عند اللَّه عز وجل والمستحقين لقابه وللبعد عن ساحة رحمته ومغفرته ورضوانه.

لذا أوصى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بالوالدين خيراً فقال: (ووالديك فأطعهما وبرَّهما حيين كانا أو ميتين وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان) وكذلك ورد في حديث آخر: (إن للولد على الوالد حقاً، وإن للوالد على الولد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شي إلاّ في معصية اللَّه سبحانه..) وكذلك في حديث مهم (أما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد اللَّه واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا باللَّه). ومن أبرز الأحاديث في التكافل بين الآباء والأبناء ما يشير إلى أن الولد وما يملك هو ملك أبيه كما عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخاصمه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أنت ومالك لأبيك).

إذن بعد كل هذا العرض وهذه النصوص الشريفة يتضح أن تكافل لأسرة وتضامنها أمر مطلوب دائماً وفي كل حال وذلك لما لهذا التكافل من فوائد دنيوية لا تخفى من قبيل القوة والاتحاد والمنعة والتعاون والتواصل والمحبة والتودد والقرب، وهذا كله يجعل من حياة الأسرة المتكافلة حياة هانئة يعيش كل أفرادها مرتاحي البال آمنين مطمئنين يحنو بعضهم على بعض ويساعد بعضهم بعضاً ويرحم بعضهم البعض الآخر، ويحسب كل واحد من تلك الأسرة أنه الأسرة بكاملها فلا فصل ولا تباين ولا شقاق ولا تباعد.

ومثل هذه الأسرة هي التي تكون خيراً للمجتمع، لأن الإنسان عندما يعيش في أسرة لها هذه المواصفات الإيمانية والأخلاقية والروحية والسلوكية سوف يكون كذلك مع من حوله من الأهل والأقارب والجيران والمجتمع وسيكون مورد المدح والتقدير والتبجيل هو وسائر أفراد عائلته التي تربّى فيها وكان جزءاً منها.

ومن أمثال هذه الأسرة المتكافلة المتضامنة يتشكل المجتمع الملتزم النظيف الأخلاقي في سيرته وعمله، ويكون هذا المجتمع مثالاً لما أراده الإسلام من أهداف وغايات للزواج القريبة منها والبعيدة على حد سواء.

نسأل اللَّه أن يوفقنا جميعاً لنعيش حياة الأسرة المتكافلة والمتضامنة التي يحبها اللَّه ويدعو إليها لنكون جميعاً في ظلال رحمة للَّه وفيضه وعطائه.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع