نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

عوامل تكوين وديمومة المجتمع في نهج البلاغة



د. عبد الله زيعور


شكلت الحكومة الإسلامية حيزاً مهماً في خطاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لما للأمر من ترابط وثيق بمسألة العدالة وتطوير الرابطة الاجتماعية للمسلمين وتحقيق المنعة تجاه الأعداء وتبليغ الرسالة على المستوى الإنساني العام.

ولعلَّ أول التجليات لأهمية الحكومة الإسلامية كان في قول الباري جلَّ وعلا: {وما محمد إلاَّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم} (آل عمران/144).

إنه وإن كان منطوق الآية يُنبىء بحقيقة واقعة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ أن مدلولها يحفز المسلمين ويشجعهم على المضي قدماً في خط الرسول والرسالة، فهو بمثابة إيعاز للأمة بأن: لا تتوقف رسالتكم وجهادكم المقدس أيها المسلمون من خلال خبر قتل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وعليكم بالحفاظ على النظام الاجتماعي والجهادي للإسلام والاستمرار بحمل الرسالة بكل أصالتها وتوهجها، كما تتجلى أهمية إقامة الحكومة الإسلامية في الحديث: "إذا كنتم ثلاثة فأمَروا أحدكم".

وهكذا يمكن استشعار المسؤولية في التصدي لأمر الحكومة، وفهم الأضرار الكارثية على المسلمين من جراء عدم وجود قوة حاكمة تدفع الخصومات وتطور وتحمل مسؤولية الأمن والاقتصاد والدماء والمستقبل.

في هذا الإطار، صرَّح الإمام (عليه السلام) بضرورة قيام الحكومة الإسلامية القوية وكافح فكرة الخوارج الذين كانوا يقولون بانتفاء الحاجة للحكومة مع وجود القرآن الكريم بين المسلمين، ورداً على شعارهم: إن الحكم إلاَّ لله قال كلامه الشهير: "كلمة حق يُراد بها باطل، نعم إنه لا حكم إلاَّ لله، وأنه لا بد للناس من أمير برِّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الآجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العود، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر، ويُستراح من فاجر" (الخطبة: 40).

وهذا الكلام يتلازم دوماً مع رؤيته الزاهدة (عليه السلام) في الحكم والإمارة عندما يقول لعبد الله بن عباس عن نعل كان يصلحها بيده: "والله لهي أحب إليَّ من إمرتكم، إلاَّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلاً" (الخطبة: 33).

ومن البديهي أن تكون الحكومة الإسلامية إطاراً يتحرك به سعياً لتحصيل حقوق الناس وضماناً لها، فرؤيته كانت واضحة في قوله (عليه السلام): "...وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق: حق الوالي على الرعية، وحق الرعية على الوالي، فريضة الله سبحانه لكل على كل، فجعلها: نظاماً لإلفتهم، وعزاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلاَّ بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلاَّ باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على إذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.

وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم الجور، وكثر الأدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعُمل بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار، وتعز الأشرار وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد" (الخطبة: 209).

* موقع العدالة في رؤية الإمام (عليه السلام):
أما العماد والأساس الذي ينطلق منه الإمام (عليه السلام) في قيادة ورعاية الأمة والعدالة بكل ما تحمل من أوجه عمل وأداء، في القرار، في التعامل، في توزيع الحقوق، في فرض الواجبات، حتى بين المقربين، في نظم تطوير الأمة... ففي مطالعة كلامه يتبين أن للعدالة المقام الأول من بين كل الاعتبارات التي كانت تتزاحم معها، كيف لا وهي أهم وأولى سمات الحاكم التي أوجبها الله، فنراه مثلاً كان يقدمها على فكرة الجود كقيمة إنسانية عالية ومتقدمة أوردها القرآن الكريم وحثَّ على التحلي بها. فالعدالة رعاية حقوق الآخرين وعدم التجاوز فيها، بينما الجود يعني أن ينشر الإنسان بيده وطوعاً، حقوقه المفروضة له على غيره، وقد يرى البعض أن الجواد هو مضحٍّ بحقوقه للآخرين وبالتالي هو أفضل وأنبل، إلاَّ أن الإمام (عليه السلام) كان يقدم العدالة على الجود، لكونها الأساس والطابع الذي يحكم إدارة البلاد والأمة، فمن أجواء العدالة يظهر الجود وعمل القيم.
فيقول (عليه السلام): "العدل يضع الأمور مواضعها، والجود يخرجها من جهتها".
ويوضح (عليه السلام) رؤيته تلك بالقول: "العدل سائس عام، والجود عارض خاص".
فالأصل في العدالة، والجود استثناء، ولا يمكن أن نعول عليه دون غيره في عملية قيادة فبناء المجتمع والأمة.
وحيث أن العدالة قطب الرحى في رؤية الإمام (عليه السلام)، فقد قدمها (عليه السلام) أيضاً على سائر الاعتبارات وتحديداً العملية منها هذه المرة، والتي تستجد في إدارة شؤون الأمة، ولا سيما منها المصلحة العليا التي قد تتشخص كأولوية يجب أن تتقدم على غيرها، طبعاً وفق رؤية المخلصين والغيارى على مسيرة الأمة، إلاَّ أن الإمام كان يحسم الخيار، وفق الأمانة التي يحمل، فتراه يتصدى لطروحات المحبين القائلة بأهمية الإعراض المؤقت عن مسألة المساواة، والمواساة من أجل المصالح العليا خاصة تجاه شخصيات مثل معاوية والي الشام.
فيجيب (عليه السلام): "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور؟! والله لا أطور به ما سمّر سمير، وأم نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله" (خطبة: 126).
هذا طبعاً رغم قول القائلين إن الأمور قد تكون أفضل فيما لو غضضنا النظر عن المسألة الآنفة الذكر، أو غيرها من "المؤلفة قلوبهم" داخل جسم الدولة، لكن فاتنا أن نشير إلى أن نهجاً للعدالة كان يجب أن يخط، وأن يتحول منارة تضيء الدرب في كل موقع مماثل، والعبرة حاضرة لا تغيب...

* مسؤولية الحاكم تجاه الرعية:
يتبين في رؤية الإمام (عليه السلام) إلى مسؤولية الحكومة والحاكم أنها لا ترتكز على أساس أن الناس تابعون، من دون قرار أو اعتبار لهم، فالحاكم والحكومة مؤتمنان على الناس وكفيلان برعاية حقوقهم وضمانها، فالعلاقة بين الحكم والناس مرتكزة على اعتبار الأمانة التي يضطلع الحاكم بها تجاه الناس، أمانة على الحقوق، المتبادلة طبعاً، وعلى الدماء والمال والمستقبل.
فالحاكم ليس ملكاً، إنما هو مكلف بإدارة الأمور، ومسؤول أمام الناس، وفق ما يقول الشاعر سعدي الشيرازي:
ليست الأغنام ملكاً للرعاة      إنما هم يخدمون الغنما


وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): "حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا وأن يجيبوا إذا دعوا".

والرائع في رؤية الإمام (عليه السلام) أنها تتخطى سقف القوانين والعلاقات الجامدة بين الحاكم والرعية لتصل إلى موجب احترام إنسانية الناس ومحبتهم واللطف بهم وفي ذلك يقدم لنا الإمام (عليه السلام) دستوراً عمل به في أيام حكمه، ويقدمه المسلمون بديلاً اليوم في عالم الحريات والقيم وموقع الرابطة والعقد الاجتماعي بين الناس، فالناس في رؤية الإمام صنفان: أخٌ في الدين ونظير في الخلق، فحق الإنسانية قائم أولاً ومقدَّم في التعامل بين المسلمين، أو بين المسلمين وسواهم، وهذه الرؤية الإنسانية النبيلة المقروءة في كلام الإمام (عليه السلام) تشكل بعض ما يمكن أن يحضر المسلمون اليوم في ساحة الحضارات وتقديم البدائل بين الأمم ونحن على أبواب القرن الحادي والعشرين.

فلنتأمل الرؤية الإنسانية النبيلة في علاقة الحاكم بالرعية وفي علاقة الآدميين بعضهم ببعض من خلال عهده (عليه السلام) إلى مالك الأشتر عندما ولاَّه على مصر: "... وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق... ولا تقولن إني مؤمر فأطاع، فإن ذلك إدغال في القلب ومنهكة للدين وتقرّب من الغير".
(الكتاب 51: نهج البلاغة).

* واجب الرعية:
وحيث إن كيان الأمة ووجودها يقوم على رابطة قائمة بين الناس وارتضاء متبادل بين الحاكم والرعية، فمن البديهي أن تتصدى الرعية لقسطها من المسؤولية وتقوم بواجباتها كاملة، وأولها واجب الاستقامة، والطاعة للحاكم العادل، واحترام هذه الرابطة العقائدية فالاجتماعية والإخلاص لها، فضلاً عن كل موجبات ديمومة هذه الرابطة وأولها الحق، في وجهيه المتكاملين: حق ولاية الأمر على الناس، وحق الناس بالأمن والعدالة، هذا من دون أن ننسى واجب الكفاح والكدح باتجاه رفع المستوى الحضاري والمستوى المعيشي لكل فرد من أفراد الأمة. ذلك أن الناس معنيون مباشرة بالعمل والكدح سعياً للتقدم، على قاعدة: "من تساوى يوماه فهو مغبون"، وحفظاً لموقع الأمة في ساحة الصراع الفكري والاقتصادي بين الناس والأمم كافة.

* حول رؤيته (عليه السلام) في الاقتصاد والإدارة:
أما في الحديث عن النمو والتقدم في الاقتصاد والإدارة، فتدل المعطيات أن الإمام لم يكن يفصل بين الضوابط في القيم: العدالة والحقوق المتبادلة، وبين النتائج المرجوة: البعد الحضاري للأمة الإسلامية والتقدم والرفاه للمجتمع الإسلامي والإنساني القائم وإن كان يقدم الأولى على الثانية.
ومن الملاحظ أن النتائج المرجوة من تقدم وازدهار لم تكن الهاجس الأساس في حركة الإمام، فالأولوية للعدالة والحقوق، والنتائج المرجوة ليست إلاَّ حلقة ثانية من الاعتبارات، ولعلَّ ذلك يتوافق مع ما يقوله أهل المعرفة اليوم وخبراء الاقتصاد والإدارة، عندما يؤكدون أن الإدارة الجيدة والناجحة هي نتاج للضوابط والأسس الناجحة كما أن الازدهار الاقتصادي هو الخاتمة للاستمرار الاجتماعي والأمني.
وفي ذلك يقول الإمام (عليه السلام): "... فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها صقحها، عزَّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل،.. فصلح بذلك الزمان، وطمع في بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء".
وهكذا يتضح أن الحق، كمفصل حاضر في كل مواقف الإمام هو السند لمنهاج الدين ومعالم العدل وصلاح الزمان واستمرارية الأمة ومنعها من الأعداء.
تبقى كلمة أخيرة وهي أن الإمام في حركته في الحكم، اختطَّ نهجاً وطريقاً ترجم به إرادة الله تعالى وسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وتبقى همتنا نحن مسلمو اليوم، باستعمال هذه الإضاءات وتحويلها- وهذا الأهم- إلى معطيات تستجيب لحاجات الناس وتماشي كل المتغيرات في عالم التقنية والانفتاح والتواصل مع الآخرين.

إن حضورنا الإسلامي له مستلزمات، أولها العمل والكد وعدم إضاعة الوقت، فالأمم تتقدم بسرعة وعلى مستويات متعددة، ونحن حملة الإسلام واجبنا مضاعف:
1- اللحاق بالركب واحتلال موقع متقدم في الساحة الدولية.
2- السعي لأن نكون لائقين بحمل الرسالة التي لا تتوقف عن دفعنا للعمل والإنتاج، ولا سيما أننا نبشِّر بها..
وليس ما نقول هو باتجاه الازدهار والرفاه والنعيم كهاجس، بل لأن العمل والإنتاج الاقتصادي يؤمن استقلالية القرار للمسلمين ويحفظ الموقع متحرراً من كل الضغوطات..
فساحة الإنسانية اليوم لا ترحم، ولا هدايا تقدمها أمة لأخرى، وسبل الاستقلال للأمم اليوم: تحقيق الاكتفاء الذاتي، التسلح الجيد على مستوى الساحة، وضع الخطط والبرامج الناجحة نحو مستقبل مشرق وهي سبل ليست سهلة قط، ولنا في تجربة الجمهورية الإسلامية خير نموذج وعبرة..


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع