نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

قرآنيات: تفسير سورة الماعون (1)(*) 


الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقَيه)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ*فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ*الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ*وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾

(سورة الماعون).
صدق الله العليّ العظيم

تطرح الآيات المباركة قصّة زمن، تتلبّس فيه القسوة والغلظة والاحتكار والغشّ بلباس العادة الاجتماعيّة، وتخاطب الآيات أصحاب هذه الصفات بـ"الويل". فما علاقة هذه الأفعال بدين الإنسان وصلاته؟

* ﴿يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾؛ هل رأيت الذي يُكذّب بالدين وينكره، والذي يتنكّر لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولليوم الآخر وللأحكام الشرعيّة؟ أرأيته تعني: هل تحبّ أن تراه؟ إذا ما رأيت الذي يُكذّب بالدين، فانظر إلى ذلك ﴿الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾، وهذه أقوى صورة من التأكيد في اللغة العربيّة، والتأييد للمساواة (بين الناس) والتسابق إلى (فعل الخيرات). إذاً، زجر اليتيم وعدم الاهتمام بطعام المسكين، يؤدّيان إلى التكذيب بالدين، وهذا هو معنى الحديث الشريف: "ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانَ وجاره جائع"(1).

* ﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾
﴿يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾؛ أي يزجر اليتيم، ويردعه، ويتجاهل حقّه. ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾؛ ولا يؤسّس، ولا يهيّئ، ولا يوفّر، ولا يمهّد إلى إطعام المساكين.

فإذاً، اليتيم والمسكين رعايتهما من شروط الدين وأُسس قبول الإيمان، ومن يتنكّر لهذا الواجب العمليّ، فقد أنكر الله وما آمن به وكذّب بدينه. وهذه حجّة دامغة ليس فوقها تعبير، ولا تعطي مجالاً للشكّ: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ*فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ*وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾.

بمَ تفيد هذه الآيات؟ إنّها تفيد في الجانب الاجتماعيّ وتحمّل المسؤوليّات الاجتماعيّة، وهو ما سيتّضح فيما يأتي.

* الإيمان الصحيح
إنّ الإيمان بالله وبالدين بالمعنى الصحيح، يستلزم الاهتمام والعناية بخلق الله وبشؤون المجتمع وبوضع الناس؛ إذ الإيمان الصحيح يعني الإيمان بخالق الكون، العالم، العادل، الرؤوف، الرازق، الرحيم، الله الذي له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، الله الذي تبدأ منه كلّ صفة صالحة وينتهي إليه كلّ خطّ صالح، مبدأ كلّ خير ومنتهاه. وصفات الخالق هذه لا بدّ من أن تنعكس على خلقه وعلى تأسيسه.

أنت تتمكّن من الحكم على المدرسة من صفات مديرك، وعلى الدائرة من صفات رئيسك، وعلى كلّ مؤسّسة من خلال أوصاف أصحابها، أمّا الله فهو خالق الكون، وهو أحسن الخالقين، فالكون هو أحسن المخلوقات، وكذلك الإنسان هو أحسن المخلوقات تقويماً.

* بما كسبت أيدي الناس
خُلِقَ الكون بشكل سليم، وخُلِقَ الإنسان بفطرة حسنة. وعلى أساس أنّ المجتمع وشكله هو من صُنع الإنسان كما يقول القرآن الكريم والأحاديث الشريفة؛ فقد ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ (الروم: 41)، فالبشر هم الذين يكوّنون شكل مجتمعاتهم الصالحة أو غير الصالحة.

وإذا وجدنا في المجتمعات شيئاً من النقص، أو الانحراف، أو التفكّك، أو الجهل، والفقر والمرض وأمثال ذلك، فلا شكّ في أنّ هذا كلّه بما كسبت أيدينا؛ فنحن أردنا ذلك -عالمين كنّا أم جاهلين- ونحن صنعنا المجتمعات، ونحن وضعنا أساليب الحكم في المجتمعات. وتحمّل الشعب للمسؤوليّات هو الذي يصنع التخلّف أو التقدّم، هذا صريح في القرآن: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).

فالوضع الاجتماعيّ صنيعة الإنسان، والمشاكل الاجتماعيّة، والفقر ووجود المسكين الذي لا طعام له، ووجود اليتيم الذي لا راعي له، هذا كلّه نتيجة إرادتنا وصناعتنا. فالفقر في المجتمعات والمرض والجهل والجسم بلا راعٍ، كلّ هذه النواقص نتيجة عملنا نحن. فإذاً، نحن مسؤولون عن هذه الأشياء إذا آمنّا بالله وباليوم الآخر. وهذا أيضاً صريح في آية أخرى وردت في سورة الأنفال عن واقعة "بدر": ﴿وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ﴾ (الأنفال: 41). ﴿إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ﴾؛ يعني إنّ دفع الخُمس لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم وذوي القربى واليتامى والمساكين، شرط وسبب ونتيجة للإيمان بالله واليوم الآخر والرسالة. 

* المسؤوليّة الاجتماعيّة من مستلزمات الإيمان
يستلزم الإيمان بالله تحمّل المسؤوليّات الاجتماعيّة، وهذا من صميم الإيمان. لا يكفي أن يقول أحدنا: "أنا والحمد لله مقيَّد بواجباتي الدينيّة، أصلّي وأصوم وأؤدّي واجبي الشخصيّ"، ويتجاهل ما يجري على الناس وما يجري حوله. 

إذا مات أحد في مكان ما بسبب إهمال الآخرين لمسؤوليّاتهم، فالله يحمِّل أهل ذاك المكان مسؤوليّة موته. ما معنى هذا؟ معناه أنّ تخلّف الناس المؤدّي إلى موت الآخرين، المسؤول عنه هو كلّ فرد من أفراد ذلك المجتمع.

انظر كم يحاولون أن يربطوا بين هذه المفاهيم ويبعدوها عن الإنسان، بقولهم: "إنّ الدين في القلب مع الله، وليس له علاقة بحياتنا العاديّة". بلى، له كلّ العلاقة؛ ففي نشاطك الاجتماعيّ، تنبثق هذه النشاطات من إيمانك بالله. هذا هو الإيمان الصحيح، هذا هو الإيمان الحيّ، هذا هو الإيمان النابض، وغير هذا الإيمان إيمانٌ ميّتٌ، إيمانٌ فاسدٌ، إيمانٌ نائمٌ، بل ليس إيماناً.


(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، إعداد وتوثيق: يعقوب حسن ضاهر، ج10، ص 274- 279، بتصرّف.
1- الكافي، الكلينيّ، ج 2، ص 668. 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع