نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

كي لا يكون التاجر فاجراً

الشيخ حسن أحمد الهادي(*)


نظراً إلى ضرورة التجارة وأهمّيّتها، وكثرة أحكامها وتنوّعها وتعقيدها، فقد أوجب الفقهاء "التفقّه فيها"، كلٌّ بحسب تجارته وعمله، محذّرين من الوقوع في الحرام، وإيذاء الناس والإضرار بهم. روي عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "مَنِ اتّجر بغير علم ارتطم في الربا، ثمّ ارتطم"(1). وتكرار لفظة "ارتطم" يبيّن أنّ نتيجة الاتّجار من دون التفقُّه هي الوقوع في المعاملات الباطلة والمحرّمة. ويفصّل الإمام الصادق عليه السلام ذلك بقوله: "مَنْ أراد التجارة فليتفقّه في دينه؛ ليعلم بذلك ما يحلّ له ممّا يحرم عليه، ومَنْ لم يتفقَّه في دينه ثمّ اتّجر، تورّط في الشبهات"(2). 

* التجارة والأزمات التي تواجه المجتمع
تكثر الأزمات والمشاكل والمحن التي يمكن أن يُبتلى بها الأفراد والمجتمعات، ويمكن تقسيمها بلحاظ تأثيرها على الناس إلى قسمين: الأوّل: ما ينعكس على المجتمع ككلّ، والثاني: ما يتأثّر به شرائح أو أفراد محدّدة. ولكلّ منهما مصاديق عدّة، منها:

1- الأزمات الاقتصاديّة: الناتجة عن الحصار الاقتصاديّ، أو البطالة، أو الاحتكار...

2- الأزمات الأمنيّة والعسكريّة: الناتجة عن الحروب العسكريّة.

3- الأزمات الصحيّة: كالأوبئة والجوائح، وتعاطي المخدّرات.

4- الأزمات الطبيعيّة (التكوينيّة): الناتجة عن الكوارث الطبيعيّة.

جميع هذه الأزمات تمثّل ضائقة يمكن أن يستغلّها التاجر بحرمة، والعكس صحيح؛ يمكن أن يتّقي الله ويمدّ يد العون للناس، ويمارس تجارته بالحلال والتقوى.

* في مواجهة الأزمات
وضع الإسلام منهجاً متكاملاً للتضامن بين الناس في الأزمات، وهي تشمل الناس كافّة، ومنها ما يخصّ التاجر، ومن أهمّ عناصره:

1- قضاء حوائج الناس تكليف عامّ: 
حرص الدين الإسلاميّ على إقامة أسمى العلاقات الإنسانيّة بين الناس بمراعاة حقوق أفراد المجتمع فرداً فرداً وجماعةً جماعة، فقال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90). وأمر تعالى المسلمين بالتعاون على البرّ والتقوى لا الإثم والعدوان، فقال: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ (المائدة: 2). ودعا النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كلّ مسلم ليكون مسؤولاً في بيئته الاجتماعيّة، ويمارس دوره الاجتماعيّ من موقعه، فقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"(3). وحينما سُئل صلى الله عليه وآله وسلم: "أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال: اتّباع سرور المسلم. قيل: يا رسول الله، وما اتّباع سرور المسلم؟ قال: شبعة جوعته، وتنفيس كربته، وقضاء دينه"(4). وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من حجّة وحجّة، حتّى عدّ عشر حجج"(5). 

2- حرمة الاحتكار في الشريعة الإسلاميّة:
الاحتكار هو جمع الطعام ونحوه ممّا يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به(6). 

وعرفّه الشيخ الطوسيّ قدس سره، بأنّه حبس الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن من البيع مع الحاجة الشديدة إليها(7).

وذكرت بعض التعاريف "قوت الآدميّ"، وأطلقت تعاريف أخرى كلمة "الطعام"، وبيّنت ثالثة "بعض أصناف الطعام". والملاحظ أنّ عنصر الحاجة أو عنصر الضرر مأخوذ في التعريف، وقد يشمل حتّى طعام البهائم والحيوانات، إذ ستكون النتيجة إمّا موت الحيوانات أو هزالها وضعفها، أو دفع مالكها مالاً كثيراً لشراء الأطعمة لها، الأمر الذي يحقّق في هذه الحالة الضرر والحاجة.

وقد صرّح جمعٌ غفير من الفقهاء المسلمين من الفريقين بحرمته(8). وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون)"(9).

وجاء في عهد الإمام عليّ عليه السلام لمالك الأشتر: "واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منع منه.. فمن قارف (مارس) حكرةً بعد نهيك إيّاه، فنكّل به وعاقبه في غير إسراف"(10). وهذا النصّ صريحٌ وواضح في منع الاحتكار، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منعه، ويتضمّن إشارة جليّة إلى مبرّر المنع والتحريم، وهو الإضرار بالغير.

وقد صدر النهي المباشر عن الاحتكار عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل من قريش يُقال له حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه، فمرّ عليه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: "يا حكيم، إيّاك أن تحتكر"(11).

3- حرمة الغشّ:
المراد بالغشّ ما جرى عليه العرف واللغة(12) من كونه بمعنى الكدر والخديعة والخيانة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بعلم الغاشّ وجهل المغشوش، فإذا كان كلاهما عالمين بالواقع، أو جاهلين به، أو كان الغاشّ جاهلاً والمغشوش عالماً، انتفى مفهوم الغشّ. ويتّفق فقهاء المسلمين على أنّ الغشّ حرام بلا خلاف(13)، بل لا شبهة في حرمة غشّ المسلم في الجملة عند جميع المسلمين(14)، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: "ليس منّا من غشّنا"(15)، وعنه عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرجلٍ يبيع التمر: (يا فلان، أما علمتَ أنّه ليس من المسلمين من غشّهم؟)"(16). وفي حديث المناهي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ومَن غشّ مسلماً في شراءٍ أو بيع، فليس منّا، ويُحشر يوم القيامة مع اليهود؛ لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين"(17). 

4- حرمة بيع الخمر والمخدّرات في الإسلام:
نظراً إلى المفاسد والأضرار الكبيرة الناشئة عن شرب الخمر، حرص المشرّع الإسلاميّ على القضاء على هذه الآفة ضمن سلسلة من المحرّمات التي تضمن سلامة المجتمع وتحصينه من الآفات، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (المائدة: 19). 

وقد شدّد القرآن على حرمته، وأنّه رجس من عمل الشيطان؛ ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 90). وقد صرّح الفقهاء بالحرمة، فحرّموا تعاطي كلّ ما يضرّ بالبدن والعقل حرمةً شديدة، كالأفيون والحشيش والكوكايين وجميع أنواع المخدّرات الضارّة والسموم(18). وصرّحت الروايات بالعقوبة الاجتماعيّة لشارب الخمر، كما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من شرب الخمر بعد ما حرّمها الله على لساني، فليس بأهل أن يُزوّج إذا خطب، ولا يشفع إذا شُفِّع، ولا يُصدّق إذا حَدّث، ولا يُؤتمن على أمانة"(19)، بل منعت الروايات عن جميع المعاملات المتعلّقة بالخمر، فعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها، وشاريها، وساقيها، وبايعها، وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه"(20).

ولمّا كان الأصل في حرمة الخمر هو الإسكار، فكلّ مُسكر محرّم، ومنه الفقّاع -البيرة- وهو شراب مخصوص متّخذ من الشعير غالباً، وليس منه ماء الشعير الذي يصفه الأطبّاء. 

ولا يجوز للمسلم تقديم الخمر لأيٍّ كان، وإن كان مُستحلاً له، ولا يجوز له غسل أوانيه، ولا تقديمها لغيره، إذا كان ذلك الغسل وهذا التقديم مقدّمة لشرب الخمر فيها. كما لا يجوز إجارة المسلم نفسه لبيع الخمر، أو تقديمه، أو تنظيف أوانيه مقدّمةً لشربه، كما لا يجوز له أخذ الأجرة على عمل كهذا؛ لأنّه حرام. 

في المحصّلة، نهت الشريعة الإسلاميّة عن اتّباع الطرق غير المشروعة في الكسب نهياً شديداً، مثل أكل المال بالباطل، والرّبا، والظلم، والفساد. وعدّت الروايات هذه الطرق من كبائر الذنوب، كالاحتكار، والخيانة، والرّبا، بأقبح الذنوب، كالقتل؛ لأنّ هذه الأعمال تشلّ النشاط الاقتصاديّ للإنسان، وتسوقه إلى الهلاك التدريجيّ(21). 

اللهمّ، أغننا بحلالك عن حرامك، يا ربّ العالمين.

 

(*) أستاذ في الحوزة العلميّة، وباحث في الفكر الإسلاميّ.
1- من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 3، ص 193. 
2- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص 283. 
3- الكافي، الكليني، ج 2، ص 163. 
4- (م. ن.)، ج1، ص405. 
5- بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 71، ص 284، ح 4. 
6- لسان العرب، ابن منظور، ج 4، ص 208. 
7-النهاية، الطوسيّ، ص374. 
8- الأنوار اللوامع في شرح مفاتيح الشرائع، حسين آل عصفور، ج 11، ص 94-95. 
9-الكافي، (م. س.)، ج 5، ص 165. 
10-نهج البلاغة، ج 3، ص 100. 
11-الكافي، (م. س.)، ج 5، ص 165. 
12- لسان العرب، (م. س.)، ج 6، ص 323، مادّة غشش: الغِشّ: نقيض النصح، وهو مأخوذ من الغشش المشرب الكدر. 
13- المكاسب، الأنصاريّ، ج 1، ص 275. 
14- الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام، الجزيريّ – الغرويّ - مازح، ج 2، ص 255: نهى عن الغشّ والتدليس ومدح السلعة بما ليس فيها، وكتم ما بها من عيب ونحو ذلك. 
15- الكافي، (م. س.)، ج 5، ص 160. 
16- الوافي، الكاشانيّ، ج17، ص466. 
17- الأمالي، الصدوق، ص515. 
18- الفقه على المذاهب الأربعة ومذهب أهل البيت عليهم السلام، (م. س.)، ص 19. 
19- فروع الكافي، الكليني، ج 6، ص 396 
20- من لا يحضره الفقيه، (م. س.)، ج 4، ص 4. 
21- المعايير الاقتصادية في السيرة الرضويّة (معيارهاى اقتصادى در تعاليم رضوى)، الحكيمي، ص 55. 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع