فضيلة الشيخ محمد توفيق المقداد
من الواضح أنّ للموسيقى تاريخاً عريقاً يمتدّ إلى الأزمنة البعيدة من عمر الإنسانية على هذه الأرض، فلا يخلو شعب أو أمة ليس لها في تراثها أثر موسيقي – قلّ أو كثُر. وهي جزء من حضارة أكثر الشعوب قديماً وحديثاً.
وتتقوم الموسيقى بأنّها الصوت الذي تصدره الآلات المعدّة لذلك وهي متنوعة جداً، بحيث لكلّ صوت آلات خاصّة به، ومن مجموع تلك الأصوات المتداخلة فيما بينها تصدر تلك الأنغام الدالّة على الفرح تارةً وعلى الحزن أخرى، أو تلعب أحياناً دوراً في إثارة الحمية والحماسة في النفوس، ولذا نرى في تاريخ الكثير من الشعوب أنّها كانت تصحب معها أناساً اختصاصيين ضمن جيوشها أثناء الحروب من أجل تجييش الجنود وتعبئتها للقتال بقوّة.
ونحن هنا لسنا في مقام البحث التوثيقي التاريخي لنشأة الموسيقى وتطوّرها لدى الشعوب، فلهذا البحث مقام آخر، ولكن الذي نريد التوصّل إليه هنا هو بيان وجهة نظر الشرع الإسلامي الحنيف تجاه الموسيقى أولاً، ثمّ تحديد ما هو الحلال الذي لا مخالفة فيه للنظام الاجتماعي العام، وما هو الحرام الذي لا انسجام فيه مع ذلك النظام.
والحاجة إلى هذا التحديد صارت ضرورية جداً في هذا الزمن الذي صارت الموسيقى فيه جزءاً لا يتجزأ من حياة الناس، فهي ترافقهم بدءاً من بيوتهم، وصولاً إلى أماكن عملهم، أو في رحلاتهم الترفيهية وغيرها، وانتهاءً بالإعلام المرئي والمسموع الذي أفرد للموسيقى حجماً لا بأس به في برامجه اليومية التي يشاهدها المليارات من البشر.
أمّا بالنسبة إلى موقف الإسلام من أصل الموسيقى، فهذا الأمر إلى الآن ما زال مورد أخذ ورد بين فقهاء المذاهب الإسلامية ومن ضمنها المذهب الجعفري، وليس هناك رأي موحد ناتج عن تفسير محدّد لهذه المسألة، والاختلاف ما زال قائماً حول ماهية الموسيقى فضلاً عن حدودها وضوابطها التي تدخل من خلالها ضمن دائرة الحلال أو الحرام.
وما زاد في تعقيد المسألة من وجهة نظر الإسلام هو "الغناء" المحرّم بأكثره في ديننا، وبما أنّ الموسيقى تعتبر من اللوازم الأساسية للغناء، فقد زادت حرمة الغناء من الشبهات حول الموسيقى وجعلت البحث حولها معقداً أكثر، من جهة هذا الترابط الموجود بينهما.
وهذا الأخذ والرد بين الفقهاء ناتج عن عدم وجود نصوص صريحة لا عامة ولا خاصة حول حلية الموسيقى أو تحريمها، نعم حول الغناء توجد نصوص صريحة جداً في التحريم تأليفاً وغناءً وأجرة، حتّى أنّه توجد روايات تقول بأنّ (أجر المغنية سحت)، والسحت هو الحرام، ومن هذا الترابط بين الموسيقى والغناء استنبط الفقهاء أنّ الموسيقى المرافقة للغناء محرّمة لأنّها المتناسبة مع مجالس اللهو والفسق والفجور الذي يمارسه الكثير من الناس في هذا العصر، كما كان الأمر كذلك في العصور السابقة.
من هنا يمكن القول بأنّ الحكم الأساسي للموسيقى في الإسلام إذا كانت مجرّدة وغير مرافقة للغناء هو الحلية، وذلك لأنّ الموسيقى لا تتضمّن كلاماً ومحتوى مثيراً للغرائز والشهوات بذاتها، وإنّما هي إطار يمكن مزجه بمضمونه من الكلام المثير والمحرّك الشهوات وبهذا تصبح محرمة.
إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ كلّ أنواع الموسيقى محلّلة، لأنّ هناك أنماطاً من الموسيقى الصاخبة جداً والمتعارفة في عصرنا في العالم العربي بأنواعها المختلفة تدخل ضمن دائرة التحريم القطعي لأنّها تُخرِجُ الإنسان عن حالته الطبيعية وتكون سبباً مباشراً لممارسات محرمة وغير مشروعة في الإسلام وهي من مختصات مجالس اللهو والفسق والفجور في العالم أجمع.
وبعبارة مختصرة يمكن القول إنّ لدينا حكمين مختلفين:
الأول: هو حرمة الغناء إلاّ ما خرج بدليل خاص أنّه حلال.
الثاني: هو حلية الموسيقى إلاّ ما ثبت حرمته لأنّه من المتعارف عند أهل اللهو وفي مجالس الفسق والفجور.
وهذا ينتج عنه أنّ كلّ ما نشكّ في استماعه من نوع الموسيقى فهو حلال ما دام لم تثبت الحرمة، وأنّ كلّ ما دام لم تثبت الحرمة، وأنّ كلّ ما نشكّ في استماعه من الغناء فهو حرام ما دام لم تثبت الحلية.
هذا كله – بنحو مختصر – البحث حول مسألة الموسيقى من وجهة نظر قانونية إسلامية فقهية.
إلاّ أنّ هناك نقطة مهمّة لا بدّ من الإشارة إليها وهي أنّ الموسيقى وفق مفهومها ودورها ليست من المسائل الأساسية التي ينبغي إعطاؤها حيزاً كبيراً ومهماً من وقتنا واهتماماتنا وإمكاناتنا، لأنّ الإسلام يفرض على أتباعه صرف طاقاتهم وجهودهم فيما يعود بالنفع العام على الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.
إلاّ أنّ هذه القاعدة لا تمنع من أن يقوم بعض الأفراد بتعلّم الموسيقى وتعليمها في الجوانب غير المحرّمة منها لأغراض خاصّة أو لفوائد محدّدة لا تتعارض مع خط السير العام للمجتمع الإسلامي.
وللتوضيح أكثر حول مجمل هذا البحث ننقل نصاً لسماحة آية الله العظمة ولي أمر المسلمين الإمام الخامنئي "دام ظلّه" حول الموسيقى يقول فيه: (.. أمّا فيما يتعلّق بالموسيقى والغناء، فعليّ أن أعترف بأنّنا لم نقدّم إلى الآن جواباً واضحاً وكاملاً بشأن هذه المسألة، ففي السابق كنا نعتقد – ولا زالت على هذا الرأي – بأنّ الموسيقى المخصّصة والمختصة بمجالس اللهو محرّمة، وكنّا آنذاك نتصوّر أنّ الموسيقى الغنائية مختصة بمجالس اللهو، ولكن ما هو حكم الأدوات الحماسية؟.. والموسيقى ليست سوى هذه الأنغام والإيقاعات والأطوار، وعليه فهي ليست محرّمة إلاّ إذا داخلها شيء محرم) (1).
وفي جواب حول عدم اتخاذ موقف واضح من الموسيقى حتّى الآن أجاب سماحة القائد الخامنئي "دام ظلّه" بما يلي: (هذا من الإشكالات الصحيحة بالكامل، وأعترف بأنّنا كان ينبغي أن نحدّد موقفاً واضحاً تجاه موضوع الموسيقى قبل الآن بأمد طويل.. ولا بدّ هنا من أن أقول لكم إنّ المحرّم في الإسلام هو الغناء وليس الموسيقى، فالموسيقى هي كلّ نغمة وصوت يخرج من حنجرة أو أداة معيّنة وفق أسلوب معيّن، والمحرّم هو نمط خاص منها وهو الغناء) (2).
(1) من حديث لسماحة القائد – حفظه الله – مع أعضاء القسم الثقافي في صحيفة "جمهوري إسلامي" 15/12/1982 م.
(2) من ندوة أجاب فيها سماحته – دام ظله – عن أسئلة الحاضرين (16/12/1987 م).