نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

إلى كل القلوب: الإنفاق صفة المتّقيــن(*)


سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)


كثيرة هي الصفات التي يتحلّى بها الإنسان المؤمن؛ فمضافاً إلى الصلاة والصوم والصبر...، ثمّة صفة مركزيّة أخرى، هي الإنفاق ممّا رزقه الله سبحانه وتعالى.

* ممّا رزقناهم ينفقون
إنَّ الإنفاق من صفات المؤمنين الأساسيّة؛ ففي سورة البقرة، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 1-2). من المقصود بالمتقين؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ (البقرة: 3). ذكر الله بعد صفة الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة عند المؤمنين، "الإنفاق ممّا رزقهم" مباشرة، وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133) من هم هؤلاء؟ هم ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). إذاً، الإنفاق من الصفات الأساسيّة في هذه المجموعة المؤمنة التي يتحدّث الله سبحانه وتعالى عنها.

* الحثّ على الإنفاق
في القرآن الكريم، الكثير من الآيات الكريمة التي أمرت بالإنفاق، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ (المنافقون: 10). في هذه الآية أمرٌ بالإنفاق، ودعوةٌ إلى الاستفادة من فرصة الوجود في الحياة الدنيا، والقدرة على الإنفاق قبل أن تأتي لحظة الموت، عندها لا يعود هناك فرصة للقيام بهذا العمل، فيطلب الإنسان حينها من ربّه العودة إلى الدنيا، ولو لساعات أو أيّام، من أجل أن يتصدّق. وهنا ثمّة تأكيد على أهميّة هذا العمل وعظمته وأثره على آخرة الإنسان.

* ما هو الإنفاق؟
معنى الإنفاق الوارد في الآيات الأولى من سورة البقرة –بحسب كبار المفسّرين- هو البذل؛ أي ما يعطيه الإنسان وما يقدّمه، وهو يشمل الإنفاق الماديّ والمعنويّ، فيشمل تعليم العلم، والاستفادة من المكانة الاجتماعيّة لخدمة الناس، وغير ذلك، مضافاً إلى الإنفاق الماديّ، الذي سنتناوله أوسع بالحديث، لما له من ارتباط بواقعنا الحاليّ.

* الإنفاق الماديّ
ثمّة توافق بين العلماء على أنّ الإنفاق الماديّ أو الماليّ من أوسع مصاديق الإنفاق. وهو عنوان لأعمال متنوّعة ومتعدّدة، سواءٌ كان إنفاقاً واجباً أو مستحبّاً؛ مثل زكاة الفطرة، وأداء الخمس والحقوق الشرعيّة، والجهاد بالمال، والصدقات، والمشاريع التي تقام، كبناء مدرسة أو مسجد أو مشفى أو شقّ طريق.

* بركات الإنفاق
يحثّ القرآن الكريم والروايات الشريفة على الإنفاق، من خلال التركيز على آثاره الأخرويّة، ومنها:

1- مضاعفة الأجر
يقول تعالى: ﴿مثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 261)؛ فالثواب الأخرويّ الذي يعطيه الله سبحانه وتعالى للمنفق هو أجر مضاعف.

2- غفران الذنوب
يقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ* أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ﴾ (الأنفال: 3-4). من آثار الإنفاق الأخرويّة أيضاً غفران الذنوب. من المعلوم أنّ الحسنات تُذهب السيّئات، ولكن ثمّة تأكيد خاصّ في هذا النصّ على أنَّ هذا العمل يمسح الذنوب ويقضي عليها وينهيها.

3- رزق كريم
﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ (الأنفال: 4). من جملة آثار الإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى، أنّه يأتي بالرزق الكريم. والرزق الكريم في الآخرة أعمّ من الطعام والشراب والقصور وغيرها، وإنّما يتعدّاه إلى الرزق المعنويّ أيضاً.

4- العاقبة الحسنة
﴿وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 22). نتيجة الإنفاق هي العاقبة الحسنة، وهي ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ*سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 23- 24)؛ أي أنّهم يدخلون جنّات عدن مع آبائهم وأهلهم وزوجاتهم وذريّاتهم؛ فأن يكون الإنسان يوم القيامة مع من يحبّ، فهذا ممّا يحبّه ويسعده.

5- ولا خطر على قلب بشر
﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهِمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 16- 17). لن يخطر في بال أحد ما هو الجزاء الحسن الذي سيسعدهم ويقرّ عيونهم يوم القيامة مقابل هذا الالتزام بالإنفاق في سبيل الله سبحانه وتعالى؛ وبتعبير آخر: ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.

* لا تخافوا الإنفاق
قد يخشى صاحب المال والرزق أن ينقص ماله أو يخسره نتيجة إنفاقه. من هنا، وعد الله سبحانه وتعالى المنفقين أنّه سيعوّض عليهم، ليس في الآخرة فحسب، وإنّما في الدنيا أيضاً، والشواهد حول ذلك كثيرة.

1- شواهد من القرآن
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ (سبأ: 39). الله سبحانه وتعالى يبسط الرزق للناس ويجدّده لهم.

﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (سبأ: 39)؛ أي أنّ الله سبحانه وتعالى يجعل لكم تعويضاً لما تنفقونه.

﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ -المنافقون- لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا﴾ (المنافقون: 7). هذا ينطبق على ما يحصل من حصار اقتصاديّ وإصرار على تجويع الناس، وعدم السماح بمساعدتهم حتّى يتخلّوا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن إيمانهم ودينهم وخطّهم وطريقهم.

2- شواهد من الأحاديث
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقة قطّ"(1)؛ عندما تتصدّق من مالك، فلن ينقص هذا المال، بل سيعوّضه الله لك ويزيده، "فأعطوا ولا تجبنوا"(2)؛ لا تخافوا من الإنفاق ولا تكونوا جبناء. وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لو أنَّ أحدكم اكتسب المال من حلّه [أي المال الحلال] وأنفقه في حلّه لم ينفق درهماً إلا أخلف الله عليه"(3). نحن نتحدّث عن دار الدنيا.

* على مَن ننفق؟
يقول الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 215). من هنا، الأولويّة في الإنفاق للأرحام والجيران والأيتام والفقراء والمساكين. وبالطبع، للأرحام والأقربين أولويّة خاصّة؛ فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "إنَّ الصدقة على ذي القرابة يضعف أجرها مرّتين"(4)؛ فمن يهتمّ بأقاربه وأرحامه وينفق عليهم ليخلّصهم من الفقر أو الجوع أو الحاجة أو الدَّين أو الضيق أو الظروف الصعبة، فهذا أجره مضاعفٌ مرّتين.

* شروط قَبول الإنفاق
من أهمّ الشروط لقَبول الإنفاق، عدم إتباعه بالمنّ والأذى، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة: 262)؛ فالذين لا يُلحقون إنفاقهم بالمنّ والأذى يُقبل عملهم، ويكون لهم أجرهم عند ربّهم ولا يحزنون يوم القيامة.

في وقتنا الحاليّ، يجري تقديم بعض المساعدات لبعض العائلات، مع تصويرها واستصراح أفرادها، ونحن نعتقد أنّ هذا السلوك قد يكون من مصاديق الأذى والمنّ والتفضّل؛ لأنّ هذا المحتاج، وإن لم يعبّر عمّا يختلجه علناً، فقد يكون متضايقاً ومزعوجاً من الداخل. يجب الالتفات إلى هذه المسألة وتجنّب القيام بمثل هذه الممارسات، حتّى لو كانت للأرشيف والتوثيق. نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم وأئمّتنا عليهم السلام كانوا لا ينظرون في وجه أيّ سائل أو محتاج خجلاً، بل كانوا يطلبون منه تدوين ما يريده، وعند مغادرته يعملون على تلبية حاجته، حرصاً منهم على مشاعره.

* خير لأنفسنا
في الحقيقة، عندما ننفق، فإنّما ننفق لأنفسنا، وما نفعله هو خيرٌ لأنفسنا؛ لأنّ الله سبحانه وتعالى غنيّ عن صدقاتنا وأموالنا وزكاتنا وخُمْسنا وجهادنا وصلاتنا وصيامنا، وإنّ كلّ ما ننفقه يوفّى إلينا ولا يضيع علينا، وثوابه وأجره وآثاره وبركاته الدنيويّة والأخرويّة تصل إلينا، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60).

(*) من خطبة لسماحة الأمين العام السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)، بتاريخ 21/4/2021م.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج3، ص131.
2- (م. ن.).
3- الوافي، الفيض الكاشانيّ، ج9، ص1506.
4- ميزان الحكمة، الريشهريّ، ج2، ص1599.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع