لقد دُعيتم في هذا الشهر الفضيل إلى ضيافة الحق تعالى، دُعيتم فيه إلى ضيافة الله، فهيئوا أنفسكم لهذه الضيافة العظيمة.. تحلّوا على الأقل بالآداب الصورية والظاهرية للصيام.
* حق الضيافة
إن الصوم لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب فحسب، بل ينبغي اجتناب المعاصي أيضاً. إن هذا من الآداب الأولية للصوم بالنسبة للمبتدئين. (أما آداب الصيام بالنسبة لرجال الله الذين يتطلعون لبلوغ معدن العظمة فهي شيء آخر). فاعملوا على الأقل بالآداب الأولية للصيام. فكما تمسكون عن الطعام والشراب، فكذلك أمسكوا عيونكم وأسماعكم وألسنتكم عن المعاصي. عاهدوا أنفسكم من الآن أن تكفوا اللسان عن الغيبة والتهمة والكذب والإساءة، وأخرجوا من قلوبكم الحسد والحقد وسائر الصفات الشيطانية القبيحة. حاولوا قدر المستطاع أن تحققوا معنى الانقطاع إلى الله تعالى، وأن تؤدوا أعمالكم بعيداً عن الرياء، وخالصة لوجه الله تعالى، وانقطعوا عن شياطين الإنس والجن. لكن يبدو أننا لسنا أهلاً لتحقيق هذه الدرجة من الإيمان وكسب هذه السعادة الكبرى. فحاولوا على الأقل أن لا يكون صومكم مقروناً باقتراف الذنوب. فإذا انقضى شهر رمضان المبارك ولم يطرأ على أعمالكم وسلوككم أي تغيير، ولم يختلف نهجكم وفعلكم عما كان عليه قبل شهر الصيام، فاعلموا أن الصوم الذي طُلب منكم لم يتحقق، وأنّ ما أدّيتموه لم يكن أكثر من صوم الحيوانات. لقد دُعيتم في هذا الشهر الشريف إلى ضيافة الله تبارك وتعالى؛ فإذا لم تتحقق معرفتكم بالله، أو لم يُضَفْ لها شيء، فاعلموا أنكم لم تلبوا دعوة الله كما ينبغي ولم تؤدّوا حق الضيافة.
* اغتنموا الفرصة
فاغتنموا الفرصة وهبّوا قبل انقضاء هذا الفيض الأعظم، لإصلاح أموركم وتزكية نفوسكم وتطهيرها، وهيئوا أنفسكم لأداء واجبات شهر الصيام، ولا تكونوا كمن عبّأه الشيطان مثلما تُعبّأ الساعة وشحنه قبل حلول شهر رمضان لكي يقوم بما لا يرضي الله بشكل تلقائي في هذا الشهر حينما ترسف الشياطين في الأغلال، فيعمل على ارتكاب المعاصي والانشغال بالأعمال المنافية لتعاليم الإسلام. إن الإنسان المرتكب للذنوب والمعاصي ينغمس في الظلم والجهل نتيجةً لبعده عن الحق وكثرة الذنوب والمعاصي، إلى درجة لم يعد معها بحاجةٍ إلى وسوسة الشيطان، بل ينطبع سلوكه وينصبغ بصبغة الشيطان، لأن صبغة الله مقابل صبغة الشيطان، وأن الذي يساير هوى النفس ويتبع الشيطان يكتسب صبغته بالتدريج.
* حتى تستحقوا عناية الله
عاهدوا أنفسكم على الأقل في هذا الشهر على مراقبة سلوككم وتجنّب الأفعال والأقوال التي لا ترضي الله تبارك وتعالى. الآن وفي هذا المجلس، عاهدوا الله تعالى على أن تتجنبوا في شهر رمضان المبارك، الغيبة والتهمة والإساءة للآخرين، وأن تتحكموا بألسنتكم وعيونكم وأيديكم وأسماعكم وبقية الأعضاء والجوارح، وراقبوا أقوالكم وأفعالكم عسى أن يكون ذلك سبباً في استحقاقكم عناية الله تعالى ورحمته وتوفيقه، وتكونوا بعد انقضاء شهر الصيام وتحرر الشياطين من الأغلال، قد هذبّتم أنفسكم وأصبحتم من الصالحين ولم يعد بمقدور الشيطان إغواؤكم وخداعكم. أعود وأكرر: اتخذوا قراركم وعاهدوا أنفسكم على مراقبة جوارحكم في هذه الثلاثين يوماً من شهر رمضان المبارك، وكونوا حذرين دائماً وملتفتين إلى الحكم الشرعي لهذا العمل الذي تنوون الإقدام عليه، والقول الذي تريدون أن تنطقوا به، والموضوع الذي تستمعون إليه.
* أهل ليلة القدر
إن قلب الإنسان كالمرآة صافٍ ومضيء، ولكنه يتكدر نتيجة تكالبه على الدنيا وكثرة المعاصي. فإذا استطاع الإنسان أن يؤدي على الأقل الصوم بنية خالصة منزهة عن الرياء (ولا أقول إن العبادات الأخرى لا ينبغي توافر الإخلاص فيها، بل إن الصدق والنية الخالصة شرطان في جميع العبادات)، وإذا تمكن أن يبقى طيلة هذا الشهر المبارك معرضاً عن الشهوات مجتنباً اللذائذ منقطعاً عما سوى الله تعالى، وقام بعبادة الصوم كما ينبغي، فقد تشمله عناية الله فيزول عن مرآة قلبه ما علق بها من الغبش وما اعتراها من الكدر وما خيّم عليها من ظلام الذنوب، ويكون ذلك سبباً في أن يعرض الإنسان كلياً عن الدنيا المحرمة ولذائذها، وحينها يرغب في ورود ليلة القدر ويكون قد أصبح أهلاً لأن ينال الأنوار التي تتحقق في تلك الليلة للأولياء والخلص من المؤمنين. وإن الذي يجزي مثل هذا الصوم هو الله تبارك وتعالى كما قال جلّ وعلا: "الصوم لي وأنا أجزي به" (1). فليس بمقدور شيء آخر أن يكون ثمناً لمثل هذا الصوم؛ حتى جنات النعيم لا تعني شيئاً أمام صومه ولا يمكن أن تكون ثمناً له. أما إذا أراد الإنسان أن يكون صيامه حَبْسَ الفم عن الطعام وإطلاقه في اغتياب الناس وفي قضاء ليالي شهر رمضان المبارك حيث تكون المجالس الليلية عامرة وتوفر فرصة أكبر لتمضية الوقت إلى الأسحار في اغتياب المسلمين وتوجيه التهم والإهانة لهم، فإنه لن يجني من صومه شيئاً، بل يكون بهذا الصوم قد أساء آداب الضيافة وأضاع حق ولي نعمته الذي خلق له كل وسائل الحياة والراحة، ووفّر له أسباب التكامل، حيث أرسل الأنبياء عليهم السلام لهدايته وأنزل الكتب السماوية ومنحه القدرة للوصول إلى معدن العظمة والنور الأبهج، وأعطاه العقل والإدراك وكرّمه بأنواع الكرامات.
(1) الكافي، الكليني، ج 4، ص 63.