اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

من الشهيد مصطفى كركي إلى الشهيد عبد المجيد كركي‏

خذني إليك‏

* مُذكرات مُهداة إلى روح الشهيد عبد المجيد كركي‏
-1-
باسمه تعالى‏
يقال "إ ن ما يخرج من القلب يدخل إلى القلب"، ولكن في كثير من الأحيان تعجز الماديات عن شرح ما في القلب... وها هو العجز قد أصاب قلمي ولساني.. إذ ما هي قدرة القلم - وهو ذلك الجماد الصغير لكي يعبر عما يحويه القلب من مكنونات أشواقه وآماله.. وما هي إمكانيات تلك القطعة من اللحم لكي تصف ما يقاسيه القلب من مراراته وآلامه... آه... آه يا أخي، لكم أود أن أنقل لك تلك المشاعر وجهاً لوجه، تارة بالكلمة، وتارة بنظرة ملؤها الاحترام والتقدير، وتارة بسمة حب وإخلاص... لكم وددت أن ما في قلبي ينتقل إلى قلبك مباشرة.. بالغنى عن الماديات الزائلة... فنعيش في عالم روحاني ملؤه التفاهم والإخلاص والتقدير..

آه... ولكنك عجلت الرحيل... ليتني كنت أدري يا أخي، أن تلك البسمات التي كانت ترتسم على شفتيك، فتفرح بها قلبي هي بسمات الشهداء... ليتني علمت أن هذه النظرات التي كنت تتحفني بها هي نظرات الوداع.. تالله، ما هذا الشرود الذي أصابك قبل الذهاب... وكأنك تستعرض مصير الدنيا الزائل أمام عينيك؟؟.. ما هذا التغير المفاجئ‏ الذي لم أعهدك عليه... إذا كنت تصطحبني في كثير من رحلاتك.. وفجأة... ودون سابق وداع، رحلت وتركتني وحيداً تتقاذفني الهموم والأحزان... لماذا لم تقل قبل ذهابك كلمتك المعهودة "أتوصيني بشي‏ء"... آه يا أخي... لو نطقتها لكنت أوصيتك بأن تأخذني معك... ومن لا يود الذهاب معك في هكذا رحلة...

ترى هل أزعجتك بشي‏ء حتى ذهبت بدوني هذه المرة؟... ما هذا الجفاء يا أخي.. لم أعهدك مرة تمتنع عن جوابي حين أناديك... فما بالك يوم عرسك أناديك فلا تجيبني... إلى هذه الدرجة شغلت بالك الحور العين حتى امتنعت عن جوابي؟؟... أم أنك كنت تسبح في نهر الكوثر فلم تستطع الكلام...؟!

لو كانت تلال جبل صافي - وهي التلال الوفية الحنون - تعلم وأنت تطأها بقدميك أنك ستهوي إليها... لكانت افترشت لك الزهور والرياحين... آه... ولكنك كما قلت لك تغيرت عن عهدك فجأة... وذهبت دون أن تبلغ أحداً...

أستميحك العذر يا أخي.. إن كنت أسأت لك بشي‏ء وأنا أعرف، أنك ستسامحني - وهي عادتك - وأنك سترسل من يأخذني إليك...

قرأت في كتب الأدب، ما يقاسيه الإنسان من ألم الفراق، وسمعت عن أناس كثيرين ابتعدوا عن أحبتهم وتألموا.. ولكني لم يكن أحس بما يصيبهم... آه لو ترى ما يحل بقلبي من جراء الفراق.. وكم أتعذب لطول الغياب... وهذا لن يرضيك أبداً...
لذلك.. ستأخذني إليك...
نعم... ستأخذني إليك...


- 2 -
لقد لجأت مؤخراً إلى الورقة والقلم، لكي أشكو إليهما ما يصيبني، وذلك بعد ذهاب الصديق المخلص الوفي، نعم.. بعد ذهابك يا أخي يا عبد المجيد.. إذ بذهابك ذهب الأخ الكتوم الذي كنت أأتمنه على الكثير من أسراري فأدفنها بين ضلوعه، لم أكن أعرف يا أخي ما هو الدافع الذي كان يدفعني إلى أن أبوح لك بكل مكنونات قلبي - فأطرحها أمامك ونتناقش بها، فكنت في موقفي هذا، وكأني مع أستاذي المخلص الذي لا يريدني بسوء...
بعد ذهابك يا أخي، توافد الناس على أهلك وأقاربك، معزين تارة، ومباركين تارة أخرى.. وحدي أنا، أتعذب وأشقى من ألم الفراق، وما من أحد يعزيني، وما من أحد يحاول التخفيف عما بي... بل في بعض الأحيان، كان البعض يلومونني على ما أبدي من الأسى - وإن كنت أحاول إخفاءه في كثير من الأوقات... ويا ليتهم علموا أن قلقي واضطرابي هو لذهابك وحدك دون صحبتي... وحزني لهذا الجفاء الذي جافيتني... حزني لرحيلك دون أدنى كلمة توجهها لي... حزني لعدم استطاعتي تنفيذ أمنيتك، فقد تمنيت يا أخي أن تستشهد بجانبي وأحملك على كتفي، ولكنني خنت الصداقة وما وفيت، إذ عادت الدنيا الغرارة الدنيئة تشدني إليها.. فتركتك في أحضان جبل صافي...

عذراً يا أخي، وسأكتفي بهذه الكلمة لأنني على يقين بأن قلبك الكبير الذي لم يحمل غلا لأحد، سوف ينفتح لي ويسامحني.

ترى يا أخي، هل تمسحت برداء الإمام الحسين عليه السلام وقدميه... هل مسحت الحوريات عنك العرق والدماء؟... هل سقاك ساقي العطاشى - أبو الفضل - شربة لن تظمأ بعدها أبداً... آه يا أخي... لكم كنت في وصيتك متأثراً بالإمام الحسين عليه السلام، وها أنت تحذو حذوه فتفارق الدنيا عطشاناً...
ولكنني أعود وأقول، أن حزني عليك هو حزن الفراق، وشوق اللقاء... ترى هل عندي نقص وتقصير حتى تركتني في الدنيا وذهبت إلى العليا؟؟... لماذا لم تعلمني أن أحذو حذوك حتى أنالك ما نلته، ورغم ذلك أقول لك أنك لن تبقى وحدك طويلاً، لأنني عرفت ما كنت تكنه لي من حب وإخلاص...
وأنك... ستأخذني إليك...
نعم.. ستأخذني إليك...

في 22 - حزيران - 1987

-3-
باسمه تعالى‏
لقد صدق الشاعر حين قال:

  ألا أيها الموت الذي ليس تاركي‏   أرحني فقد أفنيت كل خليل‏
  أراك مضراً بالذين أحبهم‏   كأنك تنحو نحوهم بدليل‏


نعم لقد صدق الشاعر في قوله، لأن الموت أفنى أكثر أحبائي والمخلصين لي.

كيف لا وأنت يا أخي يا عبد المجيد من بين الذين أفناهم الموت. آه... ولكنك فنيت في دار الفناء فقط، أما دار البقاء فهو دارك تزهو فيه متألقاً بين الورود والرياحين... وأبقى أنا أنتظر حظي ونصيبي من الفناء، وأود لو يكون فناءً دنيوياً فقط. آه... لأنه لم يكن كذلك فإنه يعني الخسران المبين...

أخي الوفي... طالما تعاونا في قضاء حوائج بعضنا البعض، فكم أنا بحاجة إلى عونك الآن لتنقل رغبتي في لقائك إلى الإمام الحسين عليه السلام ليشفع لي ويجعلن وإياك بجواره.. وأنا من هنا أعاهدك بأنني سأسعى بكل إخلاص لأن أكون معك وأتنازل عن الدنيا وشوائبها ونزعاتها.

أواه يا أخي... أيرضيك أن لا يبقى لي من أثرك وذكراك سوى تلك الصورة التي ما أن أقف أمامها حتى ينفطر قلبي وتختنق عبرتي جراء الفراق وشوق اللقاء.. أيرضيك أن أجول في طرقات البلدة - أفتش عن الأخ الوفي الحنون الذي يعلم ما يجول بخاطري لأن نظرة - فلا أجده أبحث عمن أطارحه همومي وأفكاري وتطلعاتي نحو المستقبل المجهول... أنظر حائراً إلى جبل صافي وصخور اللويزة ووادي كفرا وتلال سجد التي طالما عانقت قدميك لعلني أهتدي بنور من أنوار إشراقتك الملائكية... أناديك من أعماق قلبي، علك تجيبني ولو لمرة واحدة..
ما هذا الجفاء يا أخي، حتى في المنام لم تسمح لي باقتباس نورك سوى مرات قليلة.
بالله عليك... خذني إليك.
آه يا أخي... خذني إليك.

في 13 - تموز - 1987

-4-
مذكرات أخوية
باسمه تعالى‏
أخي الشهيد، أكتب هذه المرة مذكراتي في بيت الله، أكثر البيوت ضيافة وأرحبها صدراً. وقد آثرت هذه المرة أن أكتبها في هذا المقام المقدس علها تكون مباركة ببركة الإمام المهدي عجل الله تعال فره الشريف الذي سمي المسجد على اسمه.

أخي الشهيد: ها أنا ذا جالس بعد صلاة الظهر حيث كنت في زيارة لوالدتك الصابرة المحتسبة، آه يا أخي لو أحدثك بما كان يجول في خاطري أثناء الزيارة. لقد كانت الوالدة الحنونة تسألني أن أحدثها عنك، عما يجول بيننا من أحاديث، عن خصوصيات الكلام. آه، ولكن ليتها تعلم أن ألم الفراق وشوق اللقاء قد أنسياني أكثر أحاديث الدنيا التي كانت تدور بيننا. ولم يعد يعلق في ذاكرتي سوى أحاديثك عن الشهادة والشهداء... سوى نظراتك إلى صورة ذلك الشهيد الذي كان صديقك في إيران الإسلام، مخاطباً إياه أنه لو كان يحبك حباً صادقاً لأخذك إليه... سوى ذلك الكلام المرح وأنت تقول أن الشهيد عندما تعلو روحه إلى السماء يشرف على أرض المعركة.

آه يا أخي، ليتهم علموا أن صداقتي لأخيك الأصغر لم تكن صداقة رد فحسب، بل كنت أثناء وجودي معه، أتصورك مائلاً أمامي بسبب الشبه الكبير في الخلق والخلق بينك وبينه...

ترى يا أخي، عندما صارت روحك مشرفة على أرض المعركة، هل رأيتني والدنيا تشدني إليها من جديد، هل رأيتني وأنا أفر من الموت؟؟!.
آه يا أخي الشهيد، ترى إذا فعلت مثلك ووقفت أمام صورتك وخاطبتك بأنك إذا كنت تحبني فخذني إليك، هل ستستجيب لي كما استجاب لك أخوك في إيران الإسلام...

نعم يا أخي، لقد كنت تحبني حباً صادقاً، هذا بالإضافة إلى أني سأبقى معك على العهد الذي عاهدتك عليه.
كل هذا يدل:
على أنك ستأخذني إليك.
نعم يا أخي الحنون ستأخذني إليك...

بتاريخ 21 - تموز - 1987

-5-
مذكرات المشتاق‏
باسمه تعالى‏
مررت البارحة يا أخي بالمكان الذي قضينا فيه ليلة ما قبل العملية، حيث حاولت جاهداً أن أشخص بالضبط الصخرة التي جلسنا بقربها فلم أستطع... وقد حاولت ذلك لعل الذكريات تعود بي إلى تلك الليلة التي كانت النجوم فيها تناجي عينيك.. وأنت تمازحني بأسلوبك اللطيف يومها، راودني بعض الإحساس بأنك تمزح أكثر من عادتك بقليل، وأن أحاديثك عن الشهادة والشهداء قد أخذ منك مأخذاً كبيراً... ولكنني كنت بعيداً عن أجواء الشهادة ولم أكن أحسب لها حساباً... كنت أفكر بالدنيا، وكنت أفكر بمشاريع ممكن أن نقوم بها بعد الرجوع لله يا أخي، لم يخطر على بالي لحظة بأنني ممكن أن أعود وحدي دون رفقتك.. ترى لماذا لم تخبرني بأنك ستتركني أعود وحدي...

لا أستطيع يا أخي أن أشخص الشعور الذي انتابني عندما مررت بذلك المكان المبارك الذي كنت تجلس فيه.. تارة يسود الوجوم نفسي ويخفق قلبي خفقاناً سريعاً، آملاً في أن أجد نوراً من أنوار إشراقتك... وتارة أعود إلى الواقع وأرى نفسي أنني ما زلت مقصراً لكي أستحق ذلك وتارة أعود إلى العهد الذي عاهدتك، وأقول يجب أن أصلح نفسي لكي تأخذني إليك...

تارة تهيم بي الأفكار والذكريات في الماضي... وتارة أفكر في أين تكون الآن ومع أي إمام وإن كان أغلب ظني أنك مع الإمام الحسين عليه السلام.
لا أدري يا أخي ما الذي كان يبكيني عندما كنت أقرأ ما كتبه الشيخ علي كوراني في جريدة العهد عن ابنة الشهيد ياسر. فقد كنت أتصور نفسي أنني أنا الذي أقول هذا الكلام موجهاً إليك... أكثر ما كان يثير أشجاني يا أخي هو عبارته: "ما كنت أعرف يا بني أن هذه الشفافية التي فاضت على وجهك في الأشهر الأخيرة مؤشر على أنك سوف تتحول عن قريب إلى نوراني من أهل الملأ الأعلى، ما كنت أعرف أنها رفرفاتُ روحك بأشواقها إلى ربها وأنك بعد رفرفاتك ستحلق، وقد عرفت الآن أنك من اللحظة التي قررت فيها أن تهب... عبرت زمننا المادي وصرت تعيش بيننا بالزمن الروحي.. لله أنتم يا ورود الإيمان، يا أبناء الجنة، يا أخوة مصعب وعلي الأكبر، يا أبناء الإمام الخميني، ما هذا التحول الذي تعيشونه فتقطعون آلاف الأميال في خطوات ومئات السنين في ساعات فتبلغون أقصى الكمال ومرافقة النبيين فيما نبقى نحن نجر خطانا الثقال ونضج أيامنا العجاف... روحي لأرواحكم الفداء... لعلها تشدها إليها بأمواج نورها ونسيم رفرفاتهم... لقد كانت هذه الكلمات يا أخي تهز أعماق نفسي هزاً عنيفاً، لم أكن أدري ما السبب... ربما لأنني وجدت في كلماته هذه أصدق تعبير عما يجول في خاطري واستطعت ولو عن طريق القراءة أن أعبر عما في داخلي إذ أنني كنت عاجزاً عن التعبير...

أخي الحبيب، في ذكرى أسبوع الفقيد المجاهد محمد جميل كركي، حصل بيني وبين أحد الأخوان في الأمة نقاش بسيط - وكما تعلم لم أستطع أن أصبر فثارت عصبيتي، وهذا ما كنت أكره دائماً.
لو تدري يا أخي ما الذي قاله لي ذلك الآخر، لقد قال: لم يكن الشهيد عبد المجيد كذلك لقد كان يصبر علي إذا قلت كلاماً غير لائق...

تالله يا أخي ما هذه الشفاية التي كانت تفيض منك حتى لم تكن تزعج أحداً حتى بالكلام... آه يا أخي، لكم كنت أتمنى أن أخالطك أكثر فأكثر حتى أنهل من تصرفاتك وأخلاقك المثالية... أخي الحنون، لا أستطيع أن أميز ما هو نوع الشعور الذي ينتابني في الأيام الأخيرة هذه... أحس أنني في جميع تصرفاتي ومزاجيتي، في جميع مشاريعي نحو المستقبل - ولم يكن أحد غيرك يعلم مشاريعي - أحس أنني لا شعورياً أحسب حساب الرحيل إليك وأشعر أنني راحل عن قريب.

وقد يكون ذلك من باب الأوهام والخيالات ولكن هذا حقاً ما أشعر به وأعيش لحظاته.
ترى يا أخي هل سيصدق شعوري‏
وتأخذني إليك‏
حقاً يا أخي، هل ستأخذني إليك؟؟

مصطفى كركي‏
في 27 - تموز – 1987

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع