"إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة".
شكراً لك يا رب!
شكراً لك يا رب!
يا من آلاؤه جمة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤه كثيرة قصر فهمي عن إدراكها، فضلاً عن استقصائها.
ويا من جلَّلتني نعمه من أنوار الإيمان حللا، وضربت عليّ لطائف بره من العز كللا.
شكراً لك يا رب!
إلهي، من أنا حتى تدعوني إلى ضيافتك، وتجعلني من أهل كرامتك!
أحقاً! أذنت لأبصار هذه القلوب الهائمة بالدخول إلى "معدن عظمتك"، حيث متّعتها بالنظر إلى سبحات وجهك.
أحقاً! قد أذنت لهذه الأرواح الوالهة بالتعلق بعز قدسك، حيث أوردتها حياض حبك وسقيتها من كأس ودك وصافي شربك؟!
ما أعظم كرمك يا رب!
وما أوسع رحمتك، إذ تقبّلت هذا العبد الآبق، الغارق في بحر الذنوب والآثام، بقبول حسن، وأنبتته نباتاً حسناً بعدما كفّلته أقرب الخلق إليك، وشفّغت فيه أحبّ العباد إليك، صاحب المقام المحمود والولاية المطلقة وأهل بيته الأطهار.
من مثلي.. وأنا ضيف على اللَّه!
.. الحديث عن آداب ضيافة اللَّه ولياقة العبد للكرامة الإلهية، حديث ذو شجون عند رجال اللَّه وأرباب المعرفة، الذين ليس لهم مقصد سوى بلوغ معدن العظمة. حيث أن أقل ما يشترط فيه كمال الانقطاع إلى اللَّه عن كل ما سواه، ولو كان الجنان العالية ومقامات القرب الإلهي، وهذا ليس باليسير على أمثالنا، فلنطو كشحاً تاركين الأمر إلى أهله.
إلا أن أدنى الواجب من آداب الضيافة في هذا الشهر الكريم، وأقله الاجتناب عن المعاصي والذنوب التي توجب سخط المضيف. يقول الإمام الخميني قدس سره: "العالم بأسره في محضر اللَّه ففي محضر اللَّه لا تُقدموا على معصية".
نعم، إن جميع الكائنات على الإطلاق في محضر اللَّه تعالى، وخصوصاً المؤمن الصائم، إذ هو ضيف على اللَّه، ولذلك فاللازم أن لا يكون الصوم مقترناً باقتراف الذنوب، ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم: "أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم اللَّه".
إذا لم نستطع الوصول إلى كمال الانقطاع إلى اللَّه، فلا أقلّ من الانقطاع عن الذنوب والمعاصي وخاصة أذيّة المؤمن، حيث أن من أعظم الذنوب عند اللَّه تعالى الإساءة إلى المؤمنين حتى أن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم قال: ألا أنبئكم لمَ سمّي المؤمن مؤمناً؟ لإيمان الناس على أنفسهم وأموالهم، إلا أنبئكم منَ المسلم؟ المسلم من سلم الناس من يده ولسانه. فكيف بنا إذا كانت الإساءة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم؟ فما أعظمه من ذنب ومع ذلك فنحن نسيء إلى رسول اللَّه. روي عن أبي عبد اللَّه الصادق عليه الصلاة و السلام أنه قال: ما لكم تسؤون رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم. فقال له رجل: كيف نسوؤه. قال: ما تعلمون أن أعمالكم تعرض عليه، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك؟ فلا تسوؤا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وسرّوه.
نعم إن أعمالنا تعرض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله و سلم وهو يراها، يقول تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. عندما ينظر صلى الله عليه و آله و سلم إلى أعمالنا، وهو المكلَّف بهدايتنا وتربيتنا، فيراها مليئة بالأخطاء والذنوب فإنه سيتألم لذلك لأنه يستحي أن يقابل اللَّه تعالى بذنوبنا، مع أن اللَّه تعالى قد غفر له ذلك حيث قال: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا﴾ أي ما تقدم من ذنوب أمتك وما تأخر.
حذارِ مذارِ أيها المؤمنون من الإساءة إلى رسول اللَّه في هذا الشهر الكريم. فلنسيطر على ألسنتنا فنمنعها من الغيبة والتهمة والتجريح بالآخرين، ولنسيطر على أبصارنا فلا ننظر النظرة الحرام. ولنمتنع عن الاستماع إلى ما حرّم اللَّه علينا.
ولا بد أيضاً من الانقطاع عن اللذات الدنيوية والشهوات الحيوانية فلا نكثر من صنوف الأطعمة والأشربة وألوان اللذائذ الجسدية، فالصوم يهيء لنا أفضل فرصة للخلاص من أسر الأهواء النفسية وحب الدنيا، يقول الإمام الخميني قدس سره.
"في شهر رمضان شهر الله ينبغي أن تعلموا، أن أبواب رحمة اللَّه لعباده مفتوحة، وأن الشياطين والمردة مغللة، فإذا لم تستطيعوا في هذا الشهر إصلاح نفوسكم وتهذيبها ومراقبتها، وإذا لم تتمكنوا من سحق كل الأهواء النفسية البغيضة... فإن من الصعب جداً أن تقدروا على ذلك بعد انتهاء شهر الصيام ".
ولا يغترّنّ أحد أن أيادي الشياطين مغلولة، فإن الإنسان قد يصل، نتيجة لكثرة الذنوب والمعاصي، إلى مرحلة لا يعود بحاجة إلى وسوسة الشيطان، بل هو لشدة ما تسيطر الظلمة والجهل على قلبه تصبح صبغة الشيطان تصبغ سلوكه وتطبع تصرفاته. فيجب الحذر جيداً، واغتنام الفرصة الثمينة والاستفادة من الأجواء الإيمانية الرحيمة والعظيمة؛ ولنعلم إه إذا انقضى شهر رمضان دون أي تغيير في سلوكنا فإننا لم نقم بالصوم المطلوب فـ"كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ، وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء، حبذا نوم الأكياس وإفطارهم".
إن هذا الشهر العظيم، وإن كان النوم فيه عبادة، إلا أن ذلك لا يعني الإكثار من النوم فيه، حتى اطلق بعضهم عليه "شهر النوم". ففي الحديث الشريف إن اللَّه تعالى يبغض ثلاثة: كثرة الطعام وكثرة الكلام وكثرة المنام. ولكي يستفيد الإنسان من الأجواء الرمضانية العظيمة ينبغي عليه الإقلال من هذه الأمور قدر الإمكان. وكذلك الإقلال من الولائم والحفلات الكثيرة المخارج، وعدم إقامتها أو المشاركة فيها. وخصوصاً إذا لم يكن الفقراء والمساكين هم المدعوون أساساً.
أما الإقبال على العبادات والأدعية المطوّلة فينبغي مراعاة حال القلب فيها. فقد ورد أن لا تكرهوا إلى أنفسكم عبادة اللَّه وأن "قليل مداوم عليه خير من كثير مملول منه". أن الكثير من المؤمنين يحملون أنفسهم العبادات الشاقة أول الشهر دون مراعاة استعدادهم لذلك، فيكثرون من تلاوة القرآن والصلوات والأدعية المطوّلة، وإذا بهم بعد فترة قصيرة، ولعل ذلك في الثلث الثاني من الشهر، ينفرون من هذه الأعمال رويداً رويداً.
ومع أن العشر الأواخر هي أفضل أيام هذا الشهر، نجد أن الكثيرين، وبعد انتهاء ليلة القدر، يعرضن عن أكثر الأعمال المستحبة في تلك الأيام، وما ذلك إلا لما حمّلوا به أنفسهم قبل ذلك.
نعم، ينبغي للمؤمن أن لا يترك العنان لنفسه، بل عليه أن يوطّن نفسه على الطاعة ويصبر على العبادة حتى ينصره اللَّه على وساوس الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة، إلا أنه ينبغي الالتفات إلى حال النفس ومداراتها أيضاً.
ربنا أدخلنا في هذا الشهر الكريم مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك ولياً نصيراً.
والسلام