تحقيق: د. فاطمة خشاب درويش
في عالم متسارع التغيّرات التقنيّة، بات من الضروريّ تزويد الأطفال بالمعرفة والمهارات الرقميّة التي تؤهّلهم لمستقبل يعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعيّ. تقدِّم تجربة الطفلة زهراء مثالاً عمليّاً على أهميّة إدماج الذكاء الاصطناعيّ في تعليم برمجة الروبوت للأطفال منذ الصغر، بحيث بدأت رحلتها التعليميّة في هذا المجال في الرابعة من عمرها، مستفيدة من أساليب تعليميّة تفاعليّة تعتمد على اللعب والبرمجة المصوّرة. وبحسب والدتها، السيّدة حوراء دهيني، فقد تلقّت زهراء المعلومة في جمعيّة «كلمات» بطريقة مشوّقة حفّزتها على الممارسة والتعلّم الذاتيّ، فباتت تطبّق ما تتعلّمه في المنزل، وتُبرمج روبوتات صغيرة على الجهاز اللوحيّ (التابلت). كما شاركت زهراء ببطولتين في مسابقات «أرك»(1) ARC، قدّمت خلالها مشروعها وشرحت فكرته أمام لجنة التحكيم، ما عزّز خبرتها وثقتها بنفسها، وطوّر قدرتها في تحليل الأخطاء وتعديل الأكواد.
* الذكاء الاصطناعيّ ضرورة
ينطلق مدير جمعيّة «كلمات»، الأستاذ سميح جابر، في الحديث عن أهميّة الذكاء الاصطناعيّ الذي يشكّل قفزة نوعيّة في مجالات متعدّدة؛ فهو «يحسّن من جودة العمل ويساعد الإنسان، خاصّة في التعليم، بحيث يسهّل على الأساتذة إيصال المفاهيم ويرفع من مستوى الأداء، كما يزوّد الطلّاب بمصادر معلومات متنوّعة تتيح فرصاً أوسع للتعلّم والابتكار». يؤكّد الأستاذ جابر أنّ الذكاء الاصطناعيّ لا يحلّ مكان البشر، بل يختصّ بالمهام الروتينيّة التي لا تحتاج إلى تدخّل بشريّ مباشر، وهو يوفّر الوقت والجهد في كثير من الوظائف الآليّة. ويشدّد على ضرورة وجود «رؤية واضحة لدى المؤسّسات التربويّة لتدريب الكوادر التعليميّة وتأمين الإمكانات التقنيّة اللازمة، مثل الإنترنت السريع والأجهزة الحديثة، لضمان تطوير مهارات الطلّاب».
* الذكاء الاصطناعيّ وبرمجة الروبوت
«أصبحت تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ أداة مركزيّة في برمجة الروبوتات، بحيث تمكّن الطلّاب من تصميم برامج تجعل الروبوتات تتصرّف بذكاء في بيئات مختلفة، مثل التعرّف على العقبات، وتتبّع المسارات، والتفاعل مع الأشخاص أو الأشياء. يسهم هذا الاستخدام في تطوير التفكير النقديّ وحلّ المشكلات، ويجعل التعلّم أكثر تفاعليّة من خلال إشراك الطلّاب في تجارب عمليّة تنقلهم من مجرّد استيعاب المعلومات النظريّة إلى تطبيقها، ما يعزّز التعلّم التجريبيّ، ويطوّر مهارات التفكير النقديّ والعمليّ لديهم»، يقول جابر، مشيراً إلى أنّه «من خلال دمج الذكاء الاصطناعيّ مع الروبوت، يستطيع الطلّاب مواجهة تحدّيات معقّدة بشكل مباشر، والتعلّم من الأخطاء، وتحسين أداء الروبوت تدريجيّاً. هذا النهج يهيّئهم لمواكبة المستقبل التكنولوجيّ، ويزوّدهم بمهارات قيّمة في سوق العمل والمشاريع العلميّة».
* تجارب وإنجازات
في مؤسّسات تعليميّة عدّة، نجح طلّاب صغار في تحويل أفكارهم إلى مشاريع عمليّة باستخدام مهارات البرمجة والذكاء الاصطناعيّ، من بينهم الطالب أحمد غسّاني الذي طوّر نموذجاً لبيت ذكيّ يُتحكّم فيه عبر الهاتف، يربط الإضاءة والأبواب والأجهزة بتطبيق ذكيّ، معتمداً على مفهوم «المنزل الذكيّ» (Smart Home) وتطبيقات الذكاء الاصطناعيّ وإنترنت الأشياء(2). كما قدّم طلّاب مدرسة حارة حريك الرسميّة مشروعاً بعنوان: «النظارات الذكيّة مع العصا الإلكترونيّة»، يساعد المكفوفين على التنقّل بأمان عبر كاميرا تنطق بما حول المستخدم (كرسيّ، طاولة، باب، كوب…)، لتفادي العوائق وتحديد الطريق أمامه بسهولة. يعتمد المشروع على تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ لتحويل الصور إلى إشارات صوتيّة تدركها حواس الشخص الكفيف، ما يبرز كيف يمكن للتكنولوجيا أن تخدم الإنسان وتمكّنه من تجربة العالم بطريقة حسّية جديدة ومباشرة.
وفي مجال المسابقات، حقّق عدد من طلّاب المدارس الرسميّة في لبنان إنجازات مميّزة، إذ حصدت ثانويّة البنات في حارة حريك مراكز متقدّمة في مسابقات الروبوت، كما فازت ثانويّة حسين علي ناصر الرسميّة بالمركز الثالث في فئة البرمجة، ونالت ثانويّة حارة حريك للصبيان جائزة عن مشروع ابتكاريّ متميّز.
* تمكين الشباب بالعلم والتكنولوجيا
تأسّست جمعيّة كلمات في العام 2010م على يد مجموعة من الشبّان الطموحين، بهدف توفير فرص تعليميّة مبتكرة، وتعزيز المهارات العلميّة والفكريّة والتقنيّة، ومواءمة البرامج مع أهداف التنمية المستدامة. يشرح الأستائ سميح جابر مدير الجمعيّة رؤيتها، قائلاً: «تسعى الجمعيّة إلى خلق بيئة تعلّم متكاملة تقدّم برامج عمليّة في مجالات الروبوت والبرمجة و(3)STEAM والحساب الذهنيّ، لإعداد الشباب لدخول عصر المعرفة والتكنولوجيا وحلّ المشكلات بقيم العدل والاحترام والتعاون».
عن أهدافها، يقول: «تركّز الجمعيّة على تطوير قدرات الشباب الفكريّة والاجتماعيّة والعلميّة، ونشر ثقافة الابتكار والروبوت بين المدارس والأطفال، مع دعم ذوي صعوبات التعلّم ودمجهم في المجتمع. تشمل قيم الجمعيّة الالتزام الاجتماعيّ والأخلاقيّ والانتماء الوطنيّ، مع رؤية تربطها بالمؤسّسات التعليميّة والبحثيّة الدوليّة، وتعمل على مبادرات ابتكاريّة لتحقيق التميّز».
تشمل برامج الجمعيّة أندية الروبوت، والبرمجة، والطائرات المسيرّة، والرسم، ونشاطات مثل «روبوكامب»(4) RoboCamp للأطفال من 4 إلى 15 سنة لتطوير التفكير وحلّ المشكلات. تنظّم الجمعيّة بطولات سنويّة، وبرامج تعليميّة للمدارس بالتعاون مع مؤسّسات عالميّة، وورش عمل لتعزيز مهارات البرمجة والابتكار، إلى جانب متجر إلكترونيّ لأدوات الروبوت والإلكترونيّات.
* نادي الهرمل للروبوت
بدأت جمعيّة «كلمات» بطولة (ARC) في العام 2014م في حارة حريك بمشاركة 20 فريقاً، وأصبحت اليوم تمتدّ على كامل لبنان بمشاركة نحو 130 فريقاً، ما يعكس اهتمام الشباب بالروبوت والتقنيّات الحديثة. حقّق الطلّاب جوائز دوليّة في بطولات في الصين واليابان وقطر والأردن ومصر، ما يدلّ على مستوى الأداء العالي بفضل التدريب والدعم المستمرّ.
يروي الأستاذ علي علّام، مدرّس الرياضيّات والمعلوماتيّة وعضو نادي الهرمل للروبوت، أنّ النادي انطلق في العام 2017م، وشارك في البطولة السنويّة الثالثة ARC بمشاركة 11 فريقاً من ثانويّات ومتوسّطات الهرمل الرسميّة والخاصّة، وفاز في فئة (5)RobotRace. ومنذ ذلك الحين، واصلت فرق النادي المشاركة في البطولات بشكلٍ تصاعديّ، بحيث بلغ عدد الفرق في البطولة الأخيرة (العاشرة) 45 فريقاً، مع تحقيق النادي سنويّاً عدداً من المراكز الأولى، بما في ذلك تمثيل لبنان والشرق الأوسط في بطولة العالم MakeX 2019 في الصين.
يسعى النادي إلى نشر ثقافة الروبوت في الهرمل التي تعاني من الإهمال، فأُدرجت مادة الروبوت في سبع مدارس مع خطط للتوسّع مستقبلاً. وقد أدّى حماس الطلّاب إلى تخصّص بعضهم في علوم الكمبيوتر والروبوت وأصبحوا مدرّبين، ما يحوّل التعلّم إلى مسار مهنيّ.
ساهم النادي في مشاريع محلّيّة، مثل أجهزة الإنذار والتحكّم بالإنارة، والزراعة الذكيّة في البيوت البلاستيكيّة. وأُدخلت مؤخّراً تقنيّات الذكاء الاصطناعيّ عبر ورش للمعلّمين لإنتاج المواد التعليميّة، وتحضير الدروس، وتجهيز الامتحانات بما يتناسب مع مستوى الطلّاب والفروقات الفرديّة. يختم علّام بتأكيد أهميّة مواكبة الشباب للتطوّر الرقميّ لضمان مستقبل ناجح.
* لاستخدام آمن
يُقدّم الأستاذ سميح جابر بعض النصائح حول استخدام الذكاء الاصطناعيّ في برمجة الروبوتات، لاستخدام أخلاقيّ وآمن أيضاً، أهمّها: تعليم الشباب استخدام هذه التقنيّات والالتزام بالأخلاقيّات اللازمة، وعدم الإفراط في الاعتماد عليها، واستخدام المعلومات والأفكار بشكل سليم، والتحقّق من صحّة البيانات والمصادر والروابط لتجنّب المعلومات المفبركة. كما يشدّد على أهميّة حماية الخصوصيّة، وعدم إدخال بيانات حسّاسة، والحفاظ على التوازن بين النشاطات التقنيّة والحياة الواقعيّة، والاعتماد على التفكير الإبداعيّ والنقديّ بدلاً من النسخ الجاهزة.
ويؤكّد جابر أنّ الاستثمار في قدرات الأطفال والناشئة من خلال بيئة تعليميّة حديثة وأدوات وتقنيّات ملائمة لا يتيح لهم فرصاً فحسب، بل يبني مجتمعاً أكثر إبداعاً وابتكاراً. وترى جمعيّة «كلمات» أنّ العلم والتكنولوجيا هما المفتاح الأساسيّ لتمكين الشباب وخلق فرص أفضل، ما يجعل المستقبل أكثر إشراقاً وإمكانيّة.
(1) بطولة ARC هي البطوة السنويّة للروبوت في لبنان، تتنافس فيها المدارس والجامعات في مسابقات متعلقة بعلوم الروبوت، ويتم تنظيمها تحت إشراف الجامعة اللبنانيّة وبلديّة حارة حريك، أطلقت نسختها العاشرة في شباط/ 2025م.
(2) هو شبكة من الأجهزة المترابطة المزوّدة بحسّاسات وبرامج تتيح لها جمع البيانات، وتبادلها، والتفاعل مع بعضها ومع المستخدمين عبر الإنترنت دون تدخّل بشريّ مباشر.
(3) هو منهج تعليميّ يدمج مجالات العلوم (Science)، والتكنولوجيا (Technology)، والهندسة (Engineering)، والفنون (Arts)، والرياضيّات (Mathematics) بهدف تطوير مهارات التفكير الإبداعيّ وحلّ المشكلات وتنمية قدرات الطلّاب عبر تجربة تعليميّة متكاملة وعمليّة.
(4) برنامج صيفيّ أو دورة تدريبيّة تعلّم الطلّاب أساسيّات علوم الروبوت والتكنولوجيا.
(5) مسابقة تهدف إلى صناعة روبوت ذاتيّ الحركة، ويكون قادراً على تخطّي مسار المسابقة من الانطلاق حتّى النهاية في أسرع وقت.