الشيخ بلال حسين ناصر الدين
كان قد تعطّل محرّك سيّارتي، فأودعتها عند ميكانيكيّ أكّد لي ضرورة تبديل المحرّك بآخر، وكان قد وعدني بأنّ إصلاحها لا يحتاج من الوقت إلى أكثر من يومين أو ثلاثة أيّام على أبعد تقدير. في اليوم الثالث، اتّصلت به علّه قد أنهى إصلاحها، إلّا أنّه اعتذر وبرّر تأخّره بضيق الوقت، وهكذا استمرّ الحال حتّى مضى ثلاثة أسابيع إلى حين تسلّمت السيّارة! وفي اليوم التالي بالتحديد، بينما كنت أتوجّه إلى قريتي، فإذا بالمحرّك يتوقّف عن الدوران مجدّداً، استشرت أحدهم هناك، وكانت الصدمة: «يجب تغيير المحرّك»! وأكّد لي بالدليل القاطع أنّ الميكانيكيّ الأوّل لم يكن قد بدّل المحرّك البتّة، وما زال القديم هو نفسه في السيّارة!
هي قصّة من قصص كثيرة تحدُث مع العديد من الناس ممّن يقعون فريسة احتيال بعض أصحاب المهن والحرف وغشّهم وطمعهم وجشعهم، ممّن لا يراعون حرمة للدّين وما اؤتمنوا عليه. وتكاد أمثال هذه القصّة لكثرتها تصبح سرديّة مألوفة على ألسنة الناس، ولم تعد بينهم مصدر استغراب واستهجان! بل أصبح من المألوف أن يسود سوء الظنّ بمن تأتمنه على أمورك في مثل هذه التعاملات بدل أن يكون الحاكم هو الثقة وحسن الظنّ.
لقد اعتقد هذا المسكين أنّ فعلته هذه ستزيد من رزقه وما قُسم له من مال، وربّما توهّم أيضاً أن لا أحد يراقبه، ما دفعه إلى ارتكاب هذه المعصية.
غفل عن ما أخذه بالحرام، أنّه كان سيأخذه، لو صبر، بما أحلّه الله، ذلك أنّ الرزق مقسوم، قال تعالى: ﴿نحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ (الزخرف: 32)، إلا أنّه تسرّع واستحكمت به أهواؤه حتّى كتب على نفسه أن يأخذه بالحرام. وغفل أيضاً عن أنّ الله يراقبه، وهو الذي لا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض ولا في السماء، وأنّ الشاهد عليه هو المحاسب له، قال سبحانه: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا﴾ (الأحزاب: 52). وفوق ذلك كلّه، فقد زرع في نفسي امتعاضاً ونفوراً منه.
إنّ لمثل هذه التصرّفات التي تصدر من بعض أصحاب المهن والأعمال التجاريّة آثاراً دنيويّة وأخرويّة على حدّ سواء، فإنّ الغشّ من موجبات زوال البركة في الرزق مهما كثر وتنامى، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من غشّ أخاه المسلم، نزع الله عنه بركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكله إلى نفسه»(1)، وهو كذلك يوجب غضب الله سبحانه، عنه أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: «من غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا، ويحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين»(2).
ولا بدّ في الختام، من الإشارة إلى أنّ عدم الالتزام بآداب الأعمال المهنيّة وأحكامها وضوابطها الشرعيّة، يؤدّي لا محالة إلى عدم استقرار علاقات الناس في ما بينهم، ويكون سهماً مسموماً يُرمى على صفحة الأمن الاجتماعيّ العام.
فلنعمل بروح قوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾(التوبة: 105)، نبتغي رضاه في كلّ خطوة نخطوها، ونتّقيه في عباده، فلا نظلمهم ولا نغبنهم، ونكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110) في كلّ مفاصل حياتنا. وصدق الشاعر حيث قال:
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُهُ
فَكُلُّ رِداءٍ يَرتَديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها
فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
1. من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 3، ص 173.
2. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 42.