الشيخ موسى منصور
إزاء المظلوميّة التي لحقت بأئمّة أهل البيت عليهم السلام وإبعادهم عن المنصب الذي جعله الله لهم، كان الموقف من التعامل مع السلطان الجائر حازماً: لا لمعاونة الظَلَمة حتّى لو كان الأمر متعلّقاً بتقديم ماء الوضوء لهم. ولهذا، عاتب الإمام الكاظم عليه السلام صفوان بن مهران الجمّال بقوله: «يا صفوان، كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً»، قلت: جعلت فداك أيّ شيء؟ قال: «إكراؤك(1) جمالك من هذا الرجل- يعني هارون-» قال: والله، ما أكريته أشراً ولا بطراً ولا للصيد ولا للهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق -يعني طريق مكّة- ولا أتولّاه بنفسي، ولكن أبعث معه غلماني. فقال لي: «يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟»، قلت: نعم، جعلت فداك، قال: فقال لي: «أتحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟»، قلت: نعم، قال: «من أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النّار»(2). وعن خلفيّة هذا الحكم، يعلّل الإمام الصادق عليه السلام ذلك بقوله: «لَوْلَا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ ويَجْبِي لَهُمُ الْفَيْءَ(3) وَيُقَاتِلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ، لَمَا سَلَبُونَا حَقَّنَا...»(4). ولكن، عندما تصل النوبة إلى عليّ بن يقطين الذي كان وزيراً في بلاط هارون، نرى حكماً مغايراً، فما الذي أباح هذا المحظور؟
• من هو عليّ بن يقطين؟
من أجلّة أصحاب الإمام الكاظم عليه السلام، إلّا أنّه كان وزيراً لهارون العبّاسيّ بتأييد من الإمام عليه السلام وأمر منه، «ولد بالكوفة سنة أربع وعشرين ومئة، ومات سنة اثنتين وثمانين ومئة في أيّام موسى بن جعفر عليهما السلام ببغداد، قال أصحابنا: روى عليّ بن يقطين عن أبي عبد الله عليه السلام حديثاً واحداً، وروى عن موسى عليه السلام فأكثر»(5)، وكان أبوه يقطين من دعاة بني العبّاس، وليس صحيحاً ما قيل بأنّه كان من الشيعة، بل ورد في خبر صحيح(6) أنّ الإمام الصادق عليه السلام دعا عليه. يقول السيّد الخوئيّ قدس سره: «يقطين لم يظهر أنّه كان يتشيّع، ... بل كان هو من دعاة بني العبّاس كما ذكره النّجاشيّ. دلّت هذه الصّحيحة على أنّ الصّادق عليه السلام دعا على يقطين، فخاف عليّ بن يقطين من أن يشمله الدّعاء، فقال له الإمام عليه السلام: إنّما المؤمن في صلب الكافر»(7). وربّما يكون أحد أسباب نجاح عليّ بن يقطين في مهمّته وعدم انكشاف أمره، أنّ أباه كان من المؤيّدين لقيام الدّولة العبّاسيّة.
• مكانته عند الإمام الكاظم عليه السلام
تظافرت الروايات عن الإمام الكاظم عليه السلام، والتي تفيد جلالة قدره وعظيم منزلته، وأنّ النار لا تمسّه وأنّه من أهل الجنّة، ونكتفي بذكر اثنتين:
الأولى: عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: قلت لأبي الحسن ]الكاظم[ عليه السلام: «جعلت فداك سألني علي بن يقطين أن تدعو الله له، فقال: للآخرة؟ قلت: نعم، قال: فوضع يده على صدره ثم قال: ضمنت لعلي بن يقطين ألا تمسه النار»(8).
الثانية: عن داوود الرقي، قال: دخلت على أبي الحسن ]الكاظم[ عليه السلام يوم النحر، فقال مبتدئاً: ما عرض في قلبي أحد وأنا على الموقف إلّا عليّ بن يقطين، فإنّه ما زال معي وما فارقني حتّى أفضت»(9).
وبعد أن عرض السيّد الخوئيّ قدس سره مجموع الروايات المادحة له، علّق قائلاً: «إنّ كثرة الروايات المادحة والدالّة على جلالة عليّ بن يقطين أغنتنا عن التعرّض لأسانيدها على أنّ بعضها صحيحة، وفيها الكفاية»(10).
• أقوال العلماء فيه
اتّفق علماء الطائفة على وثاقته وجلالة قدره، وسوف نعرض بعضاً من أقوالهم بحقّه:
قال عنه شيخ الطائفة الطوسيّ قدس سره: «عليّ بن يقطين -رحمة الله عليه- ثقة، جليل القدر، له منزلة عظيمة عند أبي الحسن موسى عليه السلام، عظيم المكان في الطائفة»(11).
«وعدّه ابن شهر آشوب من خواصّ الإمام الكاظم عليه السلام، وجعله الشيخ المفيد في عداد من روى النصّ على الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام بالإمامة من أبيه، من خاصّته، وثقاته، وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته»(12).
• تدابير الإمام عليه السلام لتمكين الوزير
لقد شكّل عليّ بن يقطين أحد أبرز كوادر العمل الأمنيّ والسياسيّ للإمام موسى بن جعفر عليه السلام في واحدة من أشدّ المراحل قسوة وبطشاً على أئمّة أهل البيت عليهم السلام. وكان من الطبيعيّ أن يتّخذ الإمام الكاظم عليه السلام الإجراءات اللازمة لحمايته والحؤول دون انكشاف أمره. ونذكر شاهدَين يوضحان أنّ عليّ بن يقطين كان على مرمى حجر من ذلك:
الأوّل: العمل بالتقيّة: كان الإمام عليه السلام يوصي عليّ بن يقطين بأن يعمل بالتقيّة وأن يتوضّأ كما يتوضّأ هارون. وفي إحدى المرّات، وشى بعضهم إلى هارون بأنّ وزيره رافضيّ، فعمد إلى مراقبته، «فوقف من وراء حائط الحجرة بحيث يرى عليّ بن يقطين ولا يراه هو، فدعا بالماء للوضوء، فتمضمض ثلاثاً، واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه، وخلل شعر لحيته، وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً، ومسح رأسه وأذنيه، وغسل رجليه، وهارون ينظر إليه، فلمّا رآه قد فعل ذلك لم يملك نفسه حتّى أشرف عليه بحيث يراه، ثمّ ناداه: كذب -يا عليّ بن يقطين- من زعم أنّك من الرافضة»(13).
الثاني: علم الإمام عليه السلام أنقذه: «ذات يوم، أهدى هارون إلى ابن يقطين ثياباً أكرمه بها، وكان في جملتها دراعة خزّ سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب. فأرسل عليّ بن يقطين الثياب ومعها الدراعة إلى الإمام الكاظم عليه السلام، ومعها مبلغ من المال، ولمّا وصلت إلى الإمام عليه السلام، قبِل المال والثياب، وردّ الدراعة إليه على يد رسول آخر غير الذي جاء بالمال والثياب، وكتب الإمام عليه السلام إلى عليّ بن يقطين: احتفظ بالدّرّاعة، ولا تخرجها من يدك، فإنّ لها شأناً، فاحتفظ عليّ بالدّرّاعة، وهو لا يعرف السبب. وبعد أيّام، سعى بعض الواشين إلى هارون، وقال له: إنّ ابن يقطين يعتقد بإمامة موسى بن جعفر، ويحمل إليه خمس ماله في كلّ سنة، وقد حمل إليه الدّرّاعة التي أكرمته بها، فاستشاط هارون غضباً، وأحضر عليّ بن يقطين، وقال له: ما فعلت بتلك الدّرّاعة التي كسوتك بها؟ قال: هي عندي في سفط مختوم، وقد احتفظت بها تبرّكاً، لأنّها منك، قال هارون: إئت بها السّاعة. وفي الحال، نادى عليّ غلاماً له، وقال له: اذهب إلى البيت، وافتح الصّندوق الفلانيّ تجد فيه سفطاً، صفته كذا، جئني به الآن. فلم يلبث الغلام، حيت جاء بالسّفط، ووضعه بين يدي هارون. ففتح السّفط، ونظر إلى الدّرّاعة كما هي فسكن غضبه، وقال لعليّ: ارددها إلى مكانها، وانصرف راشداً، فلن أصدّق عليك بعدها ساعياً، وأمر له بجائزة سنيّة»(14).
• الأهداف التي حقّقها عليّ بن يقطين
لا بدّ لنا في مقام تحليل زمن الإمام الكاظم عليه السلام ودراسته من أن نأخذ بعين الاعتبار أمرين:
الأوّل: كانت فكرة التشيّع آخذة بالتبلور، وبدأت الكتلة الشيعيّة تظهر وتتمايز بشكل واضح، بخلاف الأزمنة السابقة، بحيث بات الولاء للإمام والبراءة من عدوّه يشكّلان العلامة الفارقة للشيعيّ في ذلك الزمن.
الثاني: كان هارون شديد البطش على الشيعة وعلى إمامهم، وكان الرفض تهمة يعاقب عليها القانون.
في ظلّ هذين الأمرين، سعى الإمام عليه السلام جاهداً إلى حماية الشيعة ككتلة ناشئة وكأفراد ملاحقين ومهدّدين، وهذا ما كان يرنو إليه الإمام عليه السلام من دسّ أفراد كعليّ بن يقطين في جهاز السلطة الحاكمة، وبشكل مفصّل أكثر نذكر بعض الأهداف المدعومة بالشواهد:
1. قضاء حوائج المؤمنين ودفع الأذى عنهم: من خلال تمرير أمورهم داخل السلطة، ونقل الصورة المناسبة عنهم، وإحباط مؤامرة المغرضين والمعادين للأئمّة عليهم السلام وشيعتهم، وهذا هو الهدف الأهمّ والأظهر والأغنى بالأدلّة والشواهد، فقد طلب عليّ بن يقطين أكثر من مرّة من الإمام عليه السلام أن يعفيه، لكنّ الإمام عليه السلام كان يردّ طلبه معلّلاً: «يا عليّ، إنّ لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا عليّ»(15). وقد «استأذن عليّ بن يقطين مولانا الكاظم عليه السلام في ترك عمل السلطان فلم يأذن له، وقال: لا تفعل، فإنّ لنا بك أنساً ولإخوانك بك عزّاً، وعسى أن يجبر الله بك كسراً، ويكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا عليّ، كفّارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم، اضمن لي واحدة وأضمن لك ثلاثاً: اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائك إلّا قضيت حاجته وأكرمته، وأضمن لك أن لا يظلّك سقف سجن أبداً، ولا ينالك حدّ سيف أبداً، ولا يدخل الفقر بيتك أبداً. يا عليّ، من سرّ مؤمناً فبالله بدأ وبالنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثنّى وبنا ثلّث»(16).
2. تخفيف الأعباء عن المؤمنين: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي الْحَسَنِ الكاظم عليه السلام: مَا تَقُولُ فِي أَعْمَالِ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ عليه السلام: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلاً فَاتَّقِ أَمْوَالَ الشَّيعَةِ. قَالَ (أي إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَحْمُودٍ): فَأَخْبَرَنِي عَلِيٌّ أَنَّهُ كَانَ يَجْبِيهَا مِنَ الشَّيعَةِ عَلَانِيَةً وَيَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ فِي السِّرّ»(17).
3. الإحاطة بالوضع السياسيّ: إنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسيّ من شأنه أن يزوّد الإمام عليه السلام وأصحابه بالمجريات السياسيّة التي تحصل في بلاط الحاكم، ليعمل على اتّخاذ التدابير المختلفة بشأنه، خصوصاً تلك التي تعرّض الوجود الشيعيّ للخطر(18). كما كان يهدف الإمام عليه السلام إلى «التأثير في السياسة العامّة، من خلال المشورة مع الحاكم، أو إنجاز بعض الأعمال التي تتعلّق بالصالح العامّ للأمّة»(19).
إنّ اختراق الإمام الكاظم عليه السلام للسلطة الحاكمة بموظّف رفيع برتبة وزير يؤشّر إلى ما كان يمارسه الإمام عليه السلام من عمل أمنيّ. وإنّ تحقيق الأهداف التي أرادها عليه السلام يدلّ على نجاح الخطّة المرسومة. وإنّ عدم انكشاف عليّ بن يقطين يدلّ على نجاح التدابير التي اتّخذها بإشراف من الإمام عليه السلام وتوجيه منه، في مرحلة شديدة الخطورة والحساسيّة.
صحيح أنّ عليّ بن يقطين لم ينفّذ انقلاباً على هارون العبّاسيّ، ولم يُسقط الحكم الجائر ليسلّم مقاليده إلى صاحب الحقّ الإلهيّ، لكن في تلك المرحلة -كما شخّص الإمام عليه السلام- كان الأولى هو ما ذكرناه، ولا سيّما قضاء حوائج المؤمنين، فاستحقّ على ذلك وسام البراءة من النار تقديراً لإنجازاته ونجاحاته في مجال العمل الأمنيّ.
1. أكراه دابته أو داره: آجره إيّاها.
2. وسائل الشيعة (آل البيت)، الحرّ العامليّ، ج 16، ص 259.
3. أي يجمع لهم الخراج.
4. الكافي، الشيخ الكليني، ج 5، ص 106.
5. رجال النجاشي، النجاشي، ص 273.
6. راجع: الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 13.
7. معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي، ج 13، ص 251.
8. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الشيخ الطوسي، ج 2، ص 729.
9. المصدر نفسه، ج 2، ص 731.
10. معجم رجال الحديث، مصدر سابق، ج 13، ص 249.
11. الفهرست، الشيخ الطوسي، ص 154.
12. معجم رجال الحديث، مصدر سابق، ج 13، ص 243.
13. الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 228.
14. روضة الواعظين، الفتال النيسابوري، ص 213.
15. اختيار معرفة الرجال، مصدر سابق، ج 2، ص 731.
16. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 379.
17. الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 110.
18. راجع: كاظم الغيظ، جمعيّة المعارف الإسلاميّة الثقافيّة، ص 31.
19. أعلام الهداية، المجمع العالميّ لأهل البيت عليهم السلام، ج 9، ص 105.