الشيخ محمّد شمص
كانت بغداد في زمن هارون مدينةً لا تنام. إلّا أنّ نومها إن حدث، كان يختلط بظُلمة السجون وصوت المطارق في قصور الذهب.
في قصر هارون، كانت الحياة تُنسج من خيوط الحرير، شُرفات عاليات تُشرف على المدينة، وأرضيّات من مرمر، وستائر من سُندس، وحرسٌ يمشون على الرخام بانتظام واستمرار.
• من خلّص أتباع الإمام الكاظم عليه السلام
وقف هارون ذات يوم على شرفته المُذهّبة، ونظر إلى الغيمة العابرة، وقال بكبرياء الملوك: «اذهبي حيث شئتِ، فإنّ خراجك عائدٌ إليّ».
لم يكن خطابه للغيمة عبثاً؛ فقد كانت الأرض من تُخوم الصين إلى شواطئ الأطلسيّ ترفع خراجها إليه.
ذات يوم، وهو في طريقه إلى مكّة، حيث الحجّ يصبح زينةً للسلطان، مرّ هارون بالكوفة. أُخبر أنّ رجلاً مجنوناً يُدعى بُهلولاً يمتطي قصبةً كأنّما يمتطي فرساً، يجري خلفه الأطفال.
ابتسم هارون ساخراً، وأمر بإحضاره، «بغير ترويع».
لكنّ الحقيقة أنّ بهلولاً، وهب بن عمرو الذي حضر إلى مجلس هارون، كان رجلاً من أهل الكوفة، أخفى وراء جنونه المزعوم عقلاً يفيض حكمةً وسُخريةً لاذعةً من ظلم العباسيّين.
كان من خُلَّص أتباع الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام. ولمّا اشتدّ طغيان هارون، أشار عليه الإمام عليه السلام أن يتظاهر بالجنون، نجاةً من بطش السلطان وصيانةً لدينه. فمشى في الأسواق بثيابٍ مرقّعة ولسانٍ لاذع، يهزأ بالظالمين من دون أن يُمسَّ، ويُمرّر رسائل الحقّ مغلّفةً بالمكر.
• «عِظني يا بهلول»
قال له هارون: «عِظني يا بهلول».
نظر بهلول إلى البعيد، ثم قال: «وبمَ أعظك؟ هذه قصورهم، وهذه قبورهم».
وأشار بيده، كأنّما يرسم في الهواء خطّاً يبتدئ من قصر الخليفة وينتهي عند حُفرةٍ مجهولةٍ في أرض الكوفة. وكأنّه يقول:
«يا هارون، لا جدوى من الكلمات حين تقف الحقائق شاخصةً كالأعلام. أيّ موعظةٍ تريد، وأنت ترى بعينك قلاعاً كانت بالأمس عامرةً بأهلها، ثمّ صارت أطلالاً صامتة؟ أيّ تذكيرٍ ينفعك، وأنت تسير بين قبور من ظنّوا أنّ مُلكهم سيدوم، فصاروا اليوم تُراباً؟».
غاص الصمت في مجلس هارون، شعر السلطان بشيءٍ من الوخز، لكنّه تظاهر بالتّماسك، فقال: «زِدني».
قال بهلول: «يا أمير، من رزقه الله مالاً وجمالاً، فعَفَّ في جماله، وواسَى في ماله، كُتب في ديوان الأبرار».
أُعجب هارون بكلامه، وظنّ أنّ الرجل يمدحه، فقال بعطفٍ ملوكيّ: «قد أمرنا لك أن نقضي دَينك».
• «اردُد الحقّ إلى أهله»
هنا ارتعش وجه بهلول، وقال بلهجةٍ فيها من الجنون ما يُخفي العقل، وفيها من الهدوء ما يُفزع الملوك:«لا يا أمير، لا يُقضى الدَّينُ بدَين. اردُد الحقّ إلى أهله، واقضِ دَين نفسك من نفسك».
عند هذه الجملة، توقّفت الأنفاس في صدر هارون لحظةً: «الحقّ... إلى أهله»؟!
خطر في ذهنه وجه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام في سجنه، صمته، عزمه الذي لا ينكسر. كان كلّما نظر في عينيه عليه السلام، شعر أنّه صغير.
قال في نفسه: «هو لا يملك سيفاً، ولا جيشاً، لكنّه يملك شيئاً أعظم منهما؛ الحقّ. الحقّ الذي لا يخفى... لكن لا، نحن من قاتلنا، نحن من نهضنا، هذا المُلك من حقّنا».
ثم نظر مُتفكّراً: «أهكذا يتكلّم المجانين؟ أيمكن لبهلول أن يكون... قاصداً؟!».
هزّ رأسه بقوّة كمن يطرد ذبابة، لا، الفكرة.«مجنون... هو مجنون. لا يعقل ما يقول».
هكذا قال في نفسه، وأراحها من السؤال. لكنّ قلبه لم يرتح. عاد يتدارك الموقف، وقال كملكٍ يُعطي وهو مضطرب: «إذاً، نُجزي عليك من عطائنا».
لكنّ بهلولاً، وقد قرأ اضطرابه كما يُقرأ كتابٌ مفتوح، ضحك ضحكة من لم يطلب شيئاً، وقال: «أتظنّ أنّ الله يُعطيك وينساني؟».
ثمّ ولّى هارباً، كمن أكمل مهمّته، وترك خلفه جملةً لا تزال تتردّد في صدر هارون: «اردُد الحقّ إلى أهله».
• من هو بُهلول؟
وُلد بهلول في الكوفة، واسمه الحقيقيّ وهب بن عمرو الصّيرفيّ، في منتصف القرن الثامن الميلاديّ (تُوفّي في نحو 190هـ/807م). وكان من أبرز شخصيّات العصر العبّاسيّ المعروفة بالحكمة والذّكاء والظّرافة. وُلد في الكوفة لعائلة هاشميّة، وعُرف بمكانته العلميّة المرموقة كفقيه وشاعر وقاضٍ يتمتّع بحكمةٍ واسعة وعدلٍ في الحكم. وجاء ذلك في توصيفه بـ«قاضٍ وداعية».
عزم هارون العبّاسيّ على تعيينه في منصب القضاء في بلاطه، وهو منصبٌ حسّاس قد يعرّضه لخطر كبير في ظلّ الاضطهاد السياسيّ السائد آنذاك ضدّ أتباع أهل البيت عليهم السلام. وحين استشار القاضي وهب الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام، نصحه الإمام بأن يتظاهر بالجنون، حمايةً لنفسه من بطش الخليفة وتجنّباً لتحمّل مسؤوليّة القضاء الظالم.
فاستجاب لنصيحة الإمام عليه السلام، وجعل الجنون الظاهريّ وسيلةً لإيصال رسائله بحريّة، فكان يتجوّل في الأسواق والأماكن العامّة بثياب رثّة وهيئة مجنون، منتقداً الظلم بأسلوب ساخر لاذع، ما جعله شخصيّة فريدة تمزج بين الذكاء والحكمة والهزل، وعرف حينها بلقب: «بُهلول».
اشتُهر بهلول أيضاً بمناظراته الفكريّة مع كبار العلماء مثل أبي حنيفة، وتميّز بخطبه وقصائده التي كانت تُلقى في مجالس العامّة والخاصّة، وكان الناس يتوافدون للاستماع إليه والإفادة من علمه وبلاغته.
ومن شعره المشهور، قوله:
إذا أنت لم تزرع وأبصرتَ حاصداً
ندمتَ على التفريط في زمن البذرِ
وقوله أيضاً:
عجبتُ لمن يبكي على موت غيره
ودهرُهُ بالباقين غيرُ مُبالي
ولا تزال قصص بهلول تتناقلها الأجيال، بوصفه مثالاً حيّاً على الحكمة التي تختبئ وراء قناع الجنون، وشجاعة النقد التي لا تعرف الخوف بالرّغم من الظروف القاهرة.