د. خضر محمّد نبها*
لا يمكنُ أن نَتَصوَّرَ أنَّ أئمَّةَ أهلِ البيتِ عليهم السلام في فترةِ قرنَينِ ونصفٍ من الزمانِ، من حضورِهم الشهوديِّ إلى غيبةِ القائمِ عجل الله تعالى فرجه الشريف، لم يُؤثِّروا في بناءِ الفكرِ الحضاريِّ للأمّةِ الإسلاميّةِ الناشئةِ حينذاك!
هل يُعقَلُ أن يكونَ حضورُهم الشريفُ، والمُبارَكُ، والطويلُ زمنيّاً، والذي أسماه الإمامُ الخامنئيّ دام ظلّه «إنساناً عُمرُهُ مئتانِ وخمسونَ عاماً»، حضوراً هامشياً مُتأثِّراً لا مُؤثِّراً؟!
يتناول هذا المقال الأثرَ الكلاميَّ للإمامِ موسى الكاظمِ عليه السلام على تلميذِه هشامِ بنِ الحَكَمِ (توفِّيَ سنةَ 179هـ)، هذا المتكلِّمُ الكبيرُ، الذي وَصَفَه أحدُهم بأنَّه «هذّب المذهب وأوّل من فَتَق الكلام في الإمامة»(1)، طارحاً «نصَّيْنِ» وَرَدَا عن الإمامِ الكاظمِ عليه السلام في مَسألَتَيْ: الرُّؤيةِ وأفعالِ العِبادِ، مع بيان أثرِهما في المُتكلِّمِ هشامِ بنِ الحَكَمِ، وكيف أنَّ الأخيرَ استَعانَ بِهِما في صِياغةِ أفكارِهِ ومَنظومتِهِ الكلاميَّةِ، حَسْبَ ما وَرَدَ عن هشامٍ من نُصوصٍ، لأنَّ مُؤلَّفاتِه الأصليَّةَ مَفقودةٌ، مع الأسفِ.
• هشام بن الحكم: عاشقُ أهل البيت عليهم السلام
هشام بن الحكم الكوفيّ، من أصحاب الأئمّة: الصادق وموسى الكاظم والرضا عليهم السلام (2)، كنيته «أبو محمّد»(3) وأبو الحكم(4) في مخطوط عنه(5). ورد أنّ هشام بن الحكم من قبيلة خزاعة، وأمّا في المصادر الرجاليّة فورد أنّه من موالي كندة(6). وُلِدَ هشامٌ في الكوفةِ، ونَشَأَ في واسطَ، وتحوَّلَ إلى بغدادَ، وكانت تِجارَتُه «الخرز»(7). والجديرُ بالذِّكرِ، أنَّ الإمامَ الكاظمَ عليه السلام، وتشجيعاً لهِشامٍ على التِّجارةِ، وعَظَهُ أوّلاً بأنَّ استثمارَ المالِ من تمامِ المُروءَةِ (8)، ثُمَّ سَرَّحَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ لِيُتَاجِرَ بِهَا، وَيَأْكُلَ الرِّبْحَ، وَيُعِيدَ إِلَى الإِمَامِ رَأْسَ الْمَالِ(9). وَكَانَ فِي هَذَا رُؤْيَةٌ مَنْهَجِيَّةٌ وَمَدْرُوسَةٌ لَدَى الإِمَامِ عليه السلام، بِأَنْ يَدْعَمَ أَصْحَابَ الفِكْرِ مِنْ أَتْبَاعِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ عَادَةِ السُّلْطَةِ الحَاكِمَةِ أَنْ تَرْفِدَ بِالمَالِ مَنْ يُؤَيِّدُهَا مِنَ المُثَقَّفِينَ وَالعُلَمَاءِ الكِبَارِ، وَتَحْرِمَ مُعَارِضِيهَا مِنْ هِبَاتِهَا السَّخِيَّةِ. وَلَا يَخْتَلِفْ حَالُ هِشَامٍ عَنْ هَؤُلَاءِ المُفَكِّرِينَ المُعَارِضِينَ لِلسُّلْطَةِ، فَمَا كَانَ مِنَ الإِمَامِ المَعْصُومِ إِلَّا أَنْ يَدْعَمَهُ وَيُقَوِّيَ حَالَتَهُ وَتِجَارَتَهُ مَالِيّاً، لِيَكُونَ مُفَكِّراً مُسْتَقِلّاً، وَمُثَقَّفاً مُنْتَمِياً، قَادِراً عَلَى الإِجْهَارِ بِآرَائِهِ، وَمُدَافِعاً عَنْ خَطِّ الإِمَامَةِ المَعْصُومَةِ.
تتلمذ على الإِمَامَيْنِ الصَّادِقِ وَالكَاظِمِ عليهما السلام، وَوَعَظَهُ الإِمَامُ الكَاظِمُ عليه السلام الْمَوْعِظَةَ المَشْهُورَةَ وَالمَعْرُوفَةَ، وَالَّتِي يَنبَغِي أَنْ تُكْتَبَ بِمَاءِ الذَّهَبِ، بحَيْثُ عَيَّنَ فِيهَا «رِسَالَةَ العِلْمِ»، وَالَّتِي وَرَدَتْ فِي كُتُبِ الأَحَادِيثِ ضِمْنَ «كِتَابِ العَقْلِ وَالجَهْلِ»(10). وَرَوَى هِشَامٌ عَنِ الإِمَامَيْنِ الصَّادِقِ وَالكَاظِمِ عليهما السلام المِئَاتِ مِنَ الرِّوَايَاتِ، جُمِعَتْ فِي مُسْنَدٍ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ: «مُسْنَدُ هِشَامِ بْنِ الحَكَمِ».
مَاتَ هِشَامٌ في العَام 179هـ فِي عِلَّةٍ فِي القَلْبِ، بَعْدَ أَنْ سَعَى هَارُونُ الرَّشِيدُ فِي قَتْلِهِ. مَاتَ مُتَخَفِّياً، وَقَدْ أَوْصَى أَنْ يُكْتَبَ عَلَى رُقْعَةٍ: «هَذَا هِشَامُ بْنُ الحَكَمِ الَّذِي طَلَبَهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ»(11).
فقَدْ وَرَدَ أَنَّ يَوْماً «قَالَ العَلَّافُ المُعْتَزِلِيُّ لِهِشَامٍ بْنِ الحَكَمِ: أُنَاظِرُكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ غَلَبْتَنِي رَجَعْتُ إِلَى مَذْهَبِكَ، وَإِنْ غَلَبْتُكَ رَجَعْتَ إِلَى مَذْهَبِي، فقال هشام: ما أنصفتني! بل أناظرك على أنّني إن غلبتك رجعتَ إلى مذهبي، وإن غلبتني رجعتُ إلى إمامي»(12).
• نظريّة المعرفة والرؤية
قال الامام الكاظم عليه السلام: «لَيْسَ تَجُوزُ الرُّؤْيَةُ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرَّائِي وَالمَرْئِيّ هَوَاءٌ يَنْفُذُهُ البَصَرُ، فَحَتَّى إِنْ قُطِعَ الهَوَاءُ وَعَدَمَ الضِّيَاءُ، لَمْ تَصحِّ الرُّؤْيَةُ»(13).
كَيْفَ اسْتَخْدَمَ هِشَامٌ هَذَا النَّصَّ فِي نَظَرِيَّةِ المَعْرِفَةِ الَّتِي كَانَ يَقُولُ بِهَا؟
نَعْثُرُ فِي مُؤَلَّفَاتِه عَلَى كِتَابٍ لَهُ بِعُنْوَانِ «المعرفة»(14)، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ بَحَثَ فِي المَعْرِفَةِ وَأَنْوَاعِهَا. ومن حسن الحظّ أنّ الكلينيّ (ت 328هـ) ينقل نصّاً مطوّلاً ورائعاً يوضح فيه بشكل دقيق ومفصّل عمل الحواس والعقل والوهم عند هشام. سأقتبس منه مقطعاً فيه الشاهد على أثر الإمام الكاظم عليه السلام (15) في فكر هشام. رُوي عن: «عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: الأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَا تُدْرَكُ إِلَّا بِأَمْرَيْنِ، بِالْحَوَاسِّ وَالْقَلْبِ. وَالْحَوَاسُّ إِدْرَاكُهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: إِدْرَاكاً بِالْمُدَاخَلَةِ، وَإِدْرَاكاً بِالْمُمَاسَّةِ، وَإِدْرَاكاً بِلَا مُدَاخَلَةٍ وَلَا مُمَاسَّةٍ... وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لَهُ سَبِيلٌ وَسَبَبٌ، فَسَبِيلُهُ الْهَوَاءُ وَسَبَبُهُ الضِّيَاءُ... فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْمِلَ قَلْبَهُ عَلَى مَا لَيْسَ مَوْجُوداً فِي الْهَوَاءِ مِنْ أَمْرِ التَّوْحِيدِ جَلَّ اللَّهُ وَعَزَّ، فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَتَوَهَّمْ إِلَّا مَا فِي الْهَوَاءِ مَوْجُوداً، كَمَا قُلْنَا فِي أَمْرِ الْبَصَرِ، تَعَالَى اللَّهُ أَنْ يَشْبِهَهُ خلقه»(16). نَرَى أَثَرَ الإِمَامِ مُوسَى الكَاظِمِ عليه السلام فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الأَوَّلُ: يَقْصِدُ هِشَامٌ بِـ«القَلْبِ» العَقْلَ، لِأَنَّ الإِمَامَ الكَاظِمَ عليه السلام فِي مَوْعِظَتِهِ لِهِشَامٍ يَقُولُ: «يَا هِشَامُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ (ق: 37) يعني: عَقْلٌ(17). وعَلَيْهِ، أَصْبَحَ الإِدْرَاكُ عِنْدَ هِشَامَ يَتِمُّ بِالْحَوَاسِّ وَالْقَلْبِ، أَيْ بالعَقْلِ.
الثَّانِي: حَدِيثُ هِشَامٍ عَنِ الْبَصَرِ وَأَنَّ لَهُ سَبِيلاً وَسَبَباً، فَسَبِيلُهُ الهَوَاءُ وَسَبَبُهُ الضِّيَاءُ، هُوَ اقْتِبَاسٌ مِمَّا ذَكَرَهُ الإِمَامُ الكَاظِمُ عليه السلام فِي نَصِّهِ عَنِ الهَوَاءِ وَالضِّيَاءِ. إِذاً، نَحْنُ الآنَ أَمَامَ نَظَرِيَّةِ الأَبْصَارِ وَكَيْفِيَّةِ تَمَامِهَا وشُرُوطُها.
صَحِيحٌ أَنَّ شَرْطَي الاتِّصَالِ وَالإِضَاءَةِ مِنْ مُسَلَّمَاتِ عِلْمِ البَصَرِيَّاتِ فِي وَقْتِنَا الْحَاضِرِ، وَلَكِنَّ مُجَرَّدَ طَرْحِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ هِشَامٍ بِتَأْثِيرٍ مِنَ الإِمَامِ الكَاظِمِ عليه السلام فِي عَصْرٍ تَسُودُهُ نَظَرِيَّةُ اليُونَانِيِّينَ الْمُخَالِفَةُ لِهَذَا القَوْلِ، لَهُ دَلَالَةٌ كَبِيرَةٌ عَلَى أَثَرِ الإِمَامِ(18)، للإشارةِ إلى عَبْقَرِيَّةِ هِشَامٍ وَنُفُوذِ فِكْرِهِ الْمُتَأَثِّرِ بِإِمَامِهِ الْمَعْصُومِ، بَلْ إنَّ هِشَاماً قَدْ سَبَقَ العَالِمَ الرِّيَاضِيَّ وَالطَّبِيعِيَّ الكَبِيرَ الحَسَنَ بْنَ الهَيْثَمِ (ت 411هـ) فِي نَقْدِ الفِكْرِ اليُونَانِيِّ وَفِي الحَدِيثِ عَنْ شُرُوطِ الأبْصَارِ(19). إِذاً، لَيْسَ مُبَالَغَةً القَوْلُ إِنَّ هِشَاماً بْنَ الْحَكَمِ، وَبِتَأْثِيرٍ مِنَ الإِمَامِ الْكَاظِمِ عليه السلام، هُوَ أَوَّلُ مَنْ نَقَدَ الفِكْرَ اليُونَانِيَّ فِي شُرُوطِ الأبْصَارِ، وَأَوَّلُ مَنْ تَحَدَّثَ عَنْ شَرْطِ الهَوَاءِ وَالضِّيَاءِ فِي العَالَمِ الإِسْلَامِيِّ.
الثَّالِثُ: كَلَامُ هِشَامٍ فِي آخِرِ النَّصِّ عَنْ نَفْيِ رُؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى، انْطِلَاقاً مِنْ شَرْطَيْ الهَوَاءِ وَالضِّيَاءِ، هُوَ الأمر نَفْسُه الذي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْمُفِيدُ (ت 413هـ)، بِأَنَّ الإِمَامَ الكَاظِمَ عليه السلام نَفَى عَنْ اللهِ تَعَالَى الرُّؤْيَةَ، مُسْتَنِداً إِلَى الهَوَاءِ وَالضِّيَاءِ(20)، وَلِذَلِكَ، قَرَّرَ الشَّيْخُ الْمُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ مَن نَفَى الرُّؤْيَةَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ اعْتَمَدَ عَلَى دَلِيلِ الإِمَامِ الكَاظِمِ عليه السلام(21). وَأَنَّ جَمِيعَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ مِنَ الإِمَامِيَّةِ يَقُولُونَ بِنَفْيِ قدرة الإنسان على رؤْيَةِ اللهِ تَعَالَى(22).
• أَفْعَالُ العِبَادِ
سَأَلَ أَبُو حَنِيفَةَ أَبَا الحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ أَفْعَالِ العِبَادِ مِمَّنْ هِيَ؟
فَقَالَ عليه السلام: «إِنَّ أَفْعَالَ العِبَادِ لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ اللهِ تَعَالَى خَاصَّةً، أَوْ مِنَ اللهِ وَالْعَبْدِ عَلَى وَجْهِ الِاشْتِرَاكِ فِيهَا، أَوْ مِنَ الْعَبْدِ خَاصَّةً. فَلَوْ كَانَتْ مِنَ اللهِ تَعَالَى خَاصَّةً، لَكَانَ أَوْلَى بِالْحَمْدِ عَلَى حُسْنِهَا وَالذَّمِّ عَلَى قُبْحِهَا، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِغَيْرِهِ حَمْدٌ وَلَا لَوْمٌ فِيهَا. وَلَوْ كَانَتْ مِنَ اللهِ وَالْعَبْدِ، لَكَانَ الْحَمْدُ لَهُمَا مَعاً فِيهَا وَالذَّمُّ عَلَيْهِمَا جَمِيعاً فِيهَا. وَإِذَا بَطَلَ هَذَان الْوَجْهَانِ ثَبَتَ أَنَّهَا مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنْ عَاقَبَهُمْ اللهُ تَعَالَى عَلَى جِنَايَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُمْ فَهُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ»(23).
إنّ الاِحْتِمَالَات الَّتِي أَوْرَدَهَا الإِمَامُ الكَاظِمُ عليه السلام فِي جَوَابِهِ، هِيَ نَفْسُهَا الَّتِي أَوْرَدَهَا هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ فِي نَصٍّ ذَكَرَهُ الْكَشِيُّ فِي رِجَالِهِ.
يَنْقُلُ الْكَشِيُّ: «أَنَّ الإِمَامَ الكَاظِمَ عليه السلام أَمَرَ يَوْماً بَعْضَ أَصْحَابِهِ أَنْ يَسْأَلُوا هِشَاماً بْنَ الْحَكَمِ لِيَكْتُبَ لَهُ مَا يُردُّ بِهِ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَكَتَبَ هِشَامٌ: سَلِ الْقَدَرِيَّةَ: أَعْصَى اللهَ مَنْ عَصَى بِشَيْءٍ مِنَ اللهِ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ»(24).
يَقْصِدُ هِشَامٌ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ الْجَهْمِيِّينَ أَصْحَابَ جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ، وَهُمْ الْقَائِلُونَ بِالْجَبْرِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ تُفِيدُ أَنَّ الإِمَامَ الكَاظِمَ عليه السلام قَالَ بَعْدَ إِحْضَارِ كِتَابِ هِشَامَ إِلَيْهِ: «ادْفِعُوهُ إِلَى الْجَهْمِيِّ». عِنْدَهَا، قَالَ الْجَهْمِيُّ بَعْدَ أَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ هِشَامٍ: «مَا صَنَعَ شَيْئاً»، أَيْ أَنَّ هِشَاماً لَمْ يُبْطِلْ مُعْتَقَدَه، فَرَدَّ عَلَيْهِ الإِمَامُ الكَاظِمُ عليه السلام: «إِنَّ هِشَاماً مَا تَرَكَ شَيْئاً»(25).
إِذاً، رَدُّ هِشَامٍ وَاحْتِمَالَاتُهُ هِيَ نَفْسُهَا كَمَا وَرَدَتْ عِنْدَ الإِمَامِ الكَاظِمِ عليه السلام، وَهَذَا بَيَانٌ وَاضِحٌ عَنْ أَثَرِ الإِمَامِ عليه السلام في فِكْرِه وَمَنْهَجِه فِي الرَّدِّ عَلَى القَوْلِ بِالجَبْرِ. وهو وضع القائلين به في ثلاثة احتمالات لا رابع لها، مع وضوح بطلان احتمالين؛ ليثبت الثالث. خُصُوصاً إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ هِشَاماً قَدِ اهْتَمَّ بِمَسْأَلَةِ الجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَوَضَعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كِتَابَيْنِ: الأَوَّلَ «كِتَابُ الجَبْرِ وَالْقَدَرِ»، وَالثَّانِي «كِتَابٌ فِي القَدَرِ»(26).
واللّافت، أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ الْأَشْرَسِ (ت 213هـ) أَوْرَدَ مَا يُشْبِهُ اِحْتِجَاجَ الإِمَامِ الكَاظِمِ عليه السلام فِي أَفْعَالِ العِبَادِ أَمَامَ الْمَأْمُونِ (27)، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ ثُمَامَةَ قَدْ اِسْتَقَى هَذَا المَعْنَى مِنْ ابْنِ الإِمَامِ الكَاظِمِ عليه السلام، الإِمَامِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا عليه السلام فِي طُوسَ، إِذْ كَانَ ثُمَامَةُ مِنْ خَاصَّةِ الْمَأْمُونِ، وَكَانَ أَحَدَ الشُّهُودِ عَلَى وَثِيقَةِ وِلَايَةِ عَهْدِ الإِمَام عليه السلام(28)، وَقَدْ كَانَ الإِمَامُ الرِّضَا عليه السلام مَعْنِيّاً فِي طُوسَ بِبَيَانِ المَعَانِي العَقِيدِيَّةِ وَنَقْضِ آرَاءِ الفِرَقِ المُخَالِفَةِ(29).
مِنْ هُنَا، كَانَ للإِمَام الكَاظِم عليه السلام الأَثَرُ العِلْمِيُّ الكَبِيرُ في هِشَامٍ وَالمُتَأَخِّرِينَ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ المُسْلِمِينَ، وَهَذَا أَمْرٌ مهمّ وَيَسْتَحِقُّ أَنْ نُخَصِّصَ لَهُ عَمَلاً مُسْتَقِلّاً نُبَيِّنُ فِيهِ الآثَارَ الفِكْرِيَّةَ لِلإِمَامِ عليه السلام فِي الْكَلَامِ فَقَطْ، بَلْ بِالثِّقَةِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْأَدَبِ الاجْتِمَاعِيِّ.
*أستاذ الكلام والمنطق في الجامعة اللبنانيّة.
1. الفهرست، ابن النديم، ج 1، ص 249.
2. رجال الكشي، الكشي، ص 220.
3. المصدر نفسه.
4. رجال الطوسي، الشيخ الطوسي، ص 328.
5. مناظرات هشام بن الحكم في مجالس هارون الرشيد، لكاتب المقالة، صدر عن دار المحجّة البيضاء، لبنان.
6. رجال النجاشي، النجاشي، ج 1، ص 328.
7. مروج الذهب للمسعودي، ج 4، ص 114 (ورد الحرّار أو الخّرار والصحيح الخّراز، جمع خرز).
8. الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 13.
9. رجال الكشي، مصدر سابق، ص 269.
10. تحف العقول، ابن شعبة الحراني، ج 1، ص 283 وما بعدها.
11. كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج 2، ص367.
12. عقائد الصدوق، الشيخ الصدوق، ج 5، ص43 (الجزء الخامس من سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد).
13. الحكايات، الشيخ المفيد، ج 10، ص87.
14. الفهرست، مصدر سابق، ج 1، ص 223.
15. مقالات الإسلاميّين، الأشعريّ، ج 1، ص 331.
16. الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 99.
17. راجع كتاب مسند هشام بن الحكم، موعظة الإمام الكاظم عليه السلام، رقم 1.
18. البدء والتاريخ، المقدسي، ج 1، ص 170.
19. الحسن بن الهيثم: نجومه وكشوفه النظريّة، مصطفى نظيف، ص 51 – 77.
20. الحكايات، مصدر سابق، ج 10، ص 85.
21. المصدر نفسه، ج 10، ص87.
22. المصدر نفسه، ج 10، ص 85.
23. تصحيح عقائد الصدوق، الشيخ، المفيد، ص 44.
24. رجال الكشي، مصدر سابق، ج 1، ص 267.
25. المصدر نفسه، ج 1، ص 267.
26. راجع: كتاب «المنحى الكلاميّ عن هشام بن الحكم لأثره في الفكر الإسلاميّ”، ص 38.
27. طبقات المعتزلة، ابن المرتضى، ص 62.
28. عيون أخبار الرضا عليه السلام، الشيخ الصدوق، ج 2، ص 44.
29. المصدر نفسه، ج 1، ص 154.