الشيخ علي الهادي
عاصر الإمام الكاظم عليه السلام في فترة إمامته أربعة من خلفاء بني العبّاس، وهم: أبو جعفر المنصور، ومحمّد المهدي، وموسى الهادي، وهارون الرشيد. وكان قد عاصر خلال إمامة الإمام الصادق عليه السلام آخر خلفاء بني أميّة، وهو مروان الثاني بن محمّد، وأوّل خلفاء بني العبّاس، وهو أبو عبد الله السفّاح.
ونظراً إلى الموقع السياسيّ للإمام عليه السلام، اعتمد العبّاسيّون سياسات عدّة في تعاملهم معه، فما هذه السياسات؟ وكيف واجهها الإمام عليه السلام؟
• سياسات خلفاء بني العبّاس
اعتمد العبّاسيّون سياسات عدّة في مواجهة الإمام عليه السلام، وهي:
1. تأسيس الخطّ البديل لمرجعيّة أهل البيت عليهم السلام: قرّر المنصور أن يؤسّس مذاهب فقهيّة ومرجعيّة فكريّة بديلاً عن أهل البيت عليهم السلام، فأحضر مالك بن أنس، وأمره بوضع كتاب للناس وهو «الموطأ» الذي يعدّ أوّل كتاب فقهيّ للدولة، واشترط عليه أن لا يكون فيه أيّ رواية عن الإمام عليّ عليه السلام، وألزم كلّ المسلمين به من الشيعة وغيرهم، وتعرّض بالقتل لكلّ من يمتنع عن الالتزام به(1).
2. مواجهة الحركات الشيعيّة: نظراً إلى الظلم الكبير الذي مارسه العبّاسيّون ضدّ العلويّين، بدأت تظهر تحرّكات علويّة شيعيّة كبيرة ضدّ العبّاسيّين، حتّى وصل الأمر بالخليفة محمّد المهديّ أن يحبس الإمام الكاظم عليه السلام، وأخذ العهود عليه بعدم تأييد أيّ تحرّك ضدّه(2). وفي سنة 169هـ، قام الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، بثورة ضدّ الحكم العبّاسيّ في عهد خلافة موسى الهادي، فحشد الأخير قوّات كبيرة في منطقة فخّ، لإنهاء حركة الحسين بن عليّ، ومنع تمدّد ثورته إلى مناطق أخرى، فدارت المعركة بين الطّرفين، فقتل الحسين بن علي وجميع أصحابه(3).
3. الرقابة السياسيّة: اعتمد خلفاء بني العبّاس الرقابة سياسةً أساسيّةً في مراقبة حركة الإمام عليه السلام، فهذا أبو جعفر المنصور، لمّا توفّي الإمام الصادق عليه السلام، وضع رقابةً مشدّدةً على الإمام الكاظم عليه السلام(4)، وهذا موسى الهادي قد شدّد المراقبة على العلويّين بعد معركة فخّ، فأسر بعضهم، وراقب آخرين وسأل عنهم، وشدّد في السؤال عن الإمام الكاظم عليه السلام(5).
4. الاتّهام السياسيّ بالخروج على الخليفة: اعتمد العبّاسيّون الاتّهام السياسيّ ضدّ الإمام عليه السلام، فقد اتّهمه موسى الهادي بالتحريض على معركة فخّ، ودعم قائدها(6)، واتّهمه الخليفة هارون بالخروج عليه، والدعوة إلى نفسه، وأخذ أموال الدولة، وذلك عندما قال للإمام عليه السلام: يا موسى بن جعفر، خليفتين(7) يجبى إليهما الخراج؟!(8).
5. اتّهام الإمام بانحرافات فكريّة: حاول الخليفة هارون إسقاط شخصيّة الإمام عليه السلام، بحيث اتّهمه بأنّه يحرص أن يملك العبيد والجواريّ، وأنّه يرى كلّ المسلمين عبيداً لديه، ومن لم يصل حقّ أهل البيت فليس بمسلم. فكذّبه الإمام عليه السلام وردّ عليه بأنّ ديدن آل البيت عليهم السلام، شراء العبيد وتحريرهم. وهذه الاتّهامات تهدف إلى إسقاط شخصيّة الإمام عليه السلام السياسيّة وأنّ أتباعه هم عبيدٌ مُستغلّون لا أتباع حقيقيّون(9).
6. استغلال الإمام الكاظم عليه السلام: استغلّ أبو جعفر المنصور وجود الإمام عليه السلام في ذكرى إحياء يوم النيروز، وذلك عندما كان الخليفة يجلس للتهنئة في هذا اليوم، فأجلس الإمام بجانبه، وكان المنصور يهدف من وراء ذلك إلى إضفاء الشرعيّة على حكمه، وإظهار صورة موافقة الإمام عليه السلام على سياسات الحكم، وإجراءاته، وتعامله مع المسلمين، خصوصاً أنّ ذلك حصل يوم النوروز(10).
7. التغطية على جرائم السابقين: حاول المهدي العبّاسيّ إخفاء جرائم والده بحقّ العلويّين، وذلك بعد أن فتح الخزانة التي أمره والده بعدم فتحها إلّا بعد موته، فوجد فيها رؤوس العلويّين، فدفن تلك الرؤوس(11)، ثمّ أصدر عفواً عامّاً عن جميع المسجونين، وردّ الأموال إلى أهلها، وردّ كذلك أموال الإمام الصادق عليه السلام إلى الإمام الكاظم عليه السلام، عندما جلس المهدي في حي قريش يؤدّي صلة القرابة لهم في فترة ولايته(12)، ثمّ حاول المهدي التواصل مع الإمام عليه السلام أكثر من مرّة، وإرسال الأموال إليه(13).
8. سجن الإمام الكاظم عليه السلام: اعتمد خلفاء بني العبّاس سياسة سجن الإمام عليه السلام بهدف الحدّ من دوره ونشاطه، ومنعه من ممارسة سياساته المختلفة، وخصوصاً تواصله مع الشيعة وعموم المسلمين، فنلاحظ بعدما شاع صيت الإمام الكاظم عليه السلام، واتّضح للخلافة العبّاسيّة أنّه عليه السلام إمام الأمّة، استقدمه المهدي العبّاسيّ إلى بغداد وحبسه، ثمّ ردّه إلى المدينة(14)، فسجنه هارون مرّات عدّة حتّى قتله في نهاية المطاف. وقد سجنه في البصرة عيسى بن جعفر بن أبي جعفر لمدّة سنة تقريباً(15)، وحبسه في سجن الفضل بن الربيع مدّة طويلة(16)، ثمّ سجنه في الرقّة عند الفضل بن يحيى، ويظهر أنّ هذا كان في سنة 179هـ(17)، وهكذا، إلى أن سُجن عليه السلام في سجن السندي بن شاهك، وقُتل فيه(18).
9. قتل الشيعة والموالين: اعتمد العبّاسيّون سياسة قتل الشيعة والموالين، فقتل أبو جعفر المنصور عشرات الشيعة، ووضع رؤوسهم في خزانة القصر، ولمّا فتحها المهدي، وجد فيها رؤوس قتلى من الطالبيّين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وفيهم أطفال، ورجال شباب، وشيوخ(19). وفي عهد المهدي العبّاسيّ، كانت الأوضاع العامّة للإمام عليه السلام والشيعة عموماً أقلّ خطورة وتشدّداً، بل يلحظ أنّ المهدي العبّاسيّ كان يحاول تقريب الإمام عليه السلام منه، فمثلاً، يُروى استشارة المهدي للإمام عليه السلام في قضيّة توسيع المسجد الحرام(20).
10. قتل الإمام عليه السلام: عمل أبو جعفر المنصور على متابعة وصيّة الإمام الصادق عليه السلام للإمام من بعده حتّى يقوم بقتله، إلّا أنّ وصيّة الإمام الصادق عليه السلام لخمسة من بعده، ومنهم أبو جعفر المنصور، حطّمت مشروعه، بحيث صار ملزماً بقتل نفسه، فقال أبو جعفر: «ليس إلى قتل هؤلاء سبيل»(21)، وكذلك، عمل محمّد المهدي على قتل الإمام الكاظم عليه السلام(22). ثمّ عمل الخليفة موسى الهادي على قتله أيضاً بعد ثورة فخّ، فاتّهمه أنّه المحرّض على الثورة، وأنّ الحسين بن عليّ لم يخرج إلّا بأمر من الإمام عليه السلام وإذن منه، فأمر بقتله(23). كما حاول آخر أيّام خلافته قتل الإمام عليه السلام، إلّا أنّ وجود عليّ بن يقطين في بلاط الحكم سهّل وصول هذا المخطّط للإمام عليه السلام، فحضر ابن يقطين عنده، وأخبره بما يدبّره له موسى الهادي، فرفع الإمام عليه السلام يديه للسماء والدعاء على موسى الهادي بالموت، فما لبث أن مات، وأُذيع خبر وفاته(24). وكذلك، حاول هارون قتل الإمام عليه السلام مرّات عدّة(25)، حتّى قتله في سنة 183هـ في سجن السندي بن شاهك، ودفن في مقابر قريش ببغداد، موضع قبره الآن(26).
• سياسات الإمام الكاظم عليه السلام وإجراءاته
واجه الإمام عليه السلام سياسة العبّاسيّين عبر قيامه بإجراءات سياسيّة عدّة، وهي:
1. المطالبة بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اعتمد الإمام الكاظم عليه السلام سياسة مهمّة تتعلّق بالمطالبة الدائمة بحقّ أهل البيت عليهم السلام بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد برز ذلك بشكل واضح في عهد هارون الذي كان يكثر من الحديث عن الخلافة، وبيان مرجعيّتها(27).
2. أمر أصحابه بالعمل ضمن الجهاز الحاكم: أمر الإمام عليه السلام بعض أصحابه بالعمل ضمن الجهاز الحاكم-ومن أبرزهم عليّ بن يقطين، والذي كان وزيراً بالغ الأهميّة في صفوف جهاز الحكم، ويتمتّع بمنزلة عظيمة عند خلفاء بني العبّاس، وكان مستشاراً يُؤخذ برأيه، ويُعمل به- وكان عليه السلام يهدف إلى:
- الاقتراب من أعلى موقع سياسيّ، وذلك من أجل الإحاطة بكلّ ما يدار داخل الجهاز الحاكم، فيتّخذ، بالتالي، الإجراءات المناسبة، ويأخذ كامل الحيطة والحذر، فمثلاً: لمّا حاول موسى الهادي قتل الإمام عليه السلام، وصله ذلك عن طريق عليّ بن يقطين(28).
- قضاء حوائج الشيعة والناس عموماً، خصوصاً تلك المتعلّقة بالضرائب، والأعطيات، وغير ذلك، فيلاحظ أنّ بعض كُتّاب الولاة كانوا من أصحابه عليه السلام، ويعملون على خدمة الشيعة وقضاء حوائجهم، وتخفيف الضرائب عنهم(29)، وهذا ما كان يقوم به عليّ بن يقطين أيضاً(30).
- التواصل بينه وبين الشيعة، ومن جهة أخرى بينه وبين هؤلاء الوزراء والمساعدين لهم(31).
3. المطالبة بحقوق أهل البيت عليهم السلام: طالب الإمام الكاظم عليه السلام في عهد المهدي العبّاسيّ بحقوق أهل البيت عليهم السلام، فطالبه بفدك(32). وكذلك، قام بدور مشابه في عهد هارون(33).
4. بيان حقيقة الحكم العبّاسيّ: رسّخ الإمام عليه السلام قاعدة أساسيّة في العمل السياسيّ، وهي بيان حقيقة الحكم القائم، وأنّ العبّاسيّين قد أخذوا ما ليس لهم، واعتدوا على حقّ أهل البيت عليهم السلام بالحكم والخلافة، حتّى وصفهم الإمام بأنّهم من الذين بدّلوا نعمة الله تعالى، وكفروا بأنعمه(34).
5. تفعيل أحقّيّة أهل البيت عليهم السلام بالخُمس ومال الدّولة: كان الإمام عليه السلام يرى أنّ ماليّة الدولة تابعة لأهل البيت عليهم السلام، وأنّ ما يخرج من الخراج وغيره هو تابع لهم؛ أي أنّ الدّولة لهم، فالذي يكون أحقّ بحكم الدّولة؛ هو الأَولى بماليّتها(35).
6. الدعاء: استخدم الإمام عليه السلام الدعاء وسيلة سياسيّة في مواجهة الطغاة والظالمين، فمثلاً: فبعد أن وصلت المعلومات للإمام عليه السلام بمخطّط موسى الهادي لقتله، رفع يديه بالدعاء بموت موسى الهادي، فما لبث أن مات، وأذيع خبر وفاته(36).
7. تأييد الثورات الشيعيّة: فقد أيّد الإمام عليه السلام ثورة فخّ بقيادة الحسين بن عليّ، وأخبره بشهادته، ومشروعيّة خروجه ضدّ الحكم العبّاسيّ(37).
ختاماً، إنّ القراءة السياسيّة لحياة الإمام الكاظم عليه السلام تكشف الأساليب التي اعتمدها الإمام عليه السلام في مواجهة سياسات خلفاء بني العبّاس في عصره، وأهميّتها، ما يتيح الاستفادة منها، وأخذ العبر والدروس بما يؤدّي إلى تحقيق المصالح الإسلاميّة عموماً، والمصالح الشيعيّة خصوصاً.
1. الإمامة والسياسة، الدينوري، ج 2، ص 150.
2. تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، ج 13، ص 32.
3. مقاتل الطالبيّين، أبو الفرج الأصفهاني، ص 307.
4. الكافي، الشيخ الكليني، ج 1، ص 310.
5. مهج الدعوات، السيّد ابن طاووس، ص 219.
6. المصدر نفسه.
7. الأصحّ: خليفتان.
8. عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج 1، ص 78.
9. فرج المهموم، السيّد ابن طاووس، ص 107.
10. مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج 3 ص 433.
11. تاريخ الطبري، الطبري، ج 6، ص 344.
12. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، ج 7، ص 177.
13. الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 366.
14. تاريخ بغداد، مصدر سابق، ج 13، ص29 .
15. مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 440.
16. عيون أخبار الرضا، مصدر سابق، ج 1، ص 88.
17. مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 440.
18. المقنعة، الشيخ المفيد، ص 476.
19. تاريخ الأمم والملوك، الطبري، ج 6، ص 343.
20. تفسير العياشي، العياشي، ج 1، ص 186.
21. الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 310.
22. تاريخ بغداد، مصدر سابق، ج 13، ص 32.
23. مهج الدعوات، مصدر سابق، ص 219.
24. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 460.
25. مهج الدعوات، مصدر سابق، ص 28.
26. الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 242.
27. مناقب آل أبي طالب، مصدر سابق، ج 3، ص 435.
28. مهج الدعوات، مصدر سابق، ص 219.
29. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 48، ص 174.
30. الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 110.
31. الثاقب في المناقب، الشيخ الطوسي، ص 457.
32. الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 543.
33. الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 263.
34. المصدر نفسه.
35. بحار الأنوار، مصدر سابق، ج 48، ص 158.
36. الأمالي، مصدر سابق، ص 460.
37. الكافي، مصدر سابق، ج 1، ص 366.