تحقيق: ولاء إبراهيم حمّود
هل الشهادة ميراث تتوارثه الأجيال، كما تتوارث ملامحها البشريّة وخصائصها النفسيّة، عبر انقسام الجينات الصبغيّة الوراثيّة لصفات الشجاعة والعنفوان والتضحية والإباء في عائلة واحدة فأقدموا على الجهاد ثمّ الشهادة؟
أم هي خلاصة مؤثّرات مجتمعيّة، من خارج دائرة العائلة، بعد انتشار الشهداء بيننا انتشار الأقحوان القاني، مزيّناً هامة الربيع في ربوعنا؟
أم هي مزيج ثقافيّ من كلّ ما ذُكِرَ سابقاً، نتبادله في أحاديث مجالسنا بعد استشهاد شهيدنا، فيتأثّر أحبّاؤه وأصدقاؤه به فيسلكون بعده دربه الجهاديّ، ثمّ يستشهدون بعده، فيجدّدون ذكراه وحديثه ولو بعد حين؟
* فرضيّات في فهم الشهادة
مناصرو الفرضيّة الأولى استندوا إلى كثرة الشهداء في نطاق عائلة واحدة، الذين ارتقوا في مراحل جهاديّة مختلفة، كعائلة مغنيّة، إذ قدّمت الوالدة الحاجّة أمّ عماد الشهيد عماد(1) بعد الشهيدين فؤاد(2) وجهاد(3)، ثمّ قدّمت في معارك الدفاع المقدّس حفيدها جهاد عماد مغنيّة(4).
أمّا مناصرو الفرضيّة الثانية فتحدّثوا عن تأثّرهم بأحد أصدقائهم من الذين سبقوهم إلى محفل الشهادة، ليستشهد أحدهم لاحقاً فيتأثّر به الرفاق كذلك، وهكذا حتّى طال الدور مجموعةً من أصدقاء هذا الشهيد، فتجدّدت الأحزان والدافع للمضيّ قُدماً، واستمرّت الشهادة ميراثاً ونهجاً وثقافة.
طُرحت هذه الفرضيّات على عائلات قدّمت في دروب المقاومة أكثر من شهيد في مراحل جهاديّة مختلفة، وعدت بالمحصِّلة الآتية.
* الشهادة... نهج حياة
أكّدت السيّدة بتول أشمر، شقيقة قمر الاستشهاديّين علي منيف أشمر(5)، والشهيدين محمّد(6) ومحمّد علي منيف أشمر(7)، أنّ «الشهادة نهج نتعلّمه ونكتسبه، ثمّ نتّخذه طريقاً نسلكه. وقد توارثنا هذه العقيدة من خلال اتّخاذ الإمام الحسين عليه السلام قدوة لنا، الذي خرج لطلب الإصلاح في أمّة جدّه، وقدّم في سبيل هذا الإصلاح نفسه وكلّ أهل بيته، وهذا ما يدفعنا إلى بذل أنفسنا وأرواحنا عندما تكون أمّتنا في حاجتها لتعيش مرفوعة الرأس، وفي سبيل حفظ الإسلام والإنسان». انطلاقاً من هذه القاعدة الثابتة، اقتدى إخوتها الثلاثة بالإمام الحسين عليه السلام ، قائلةً: «إخوتي ساروا على هذا النهج العظيم، فلم يبخلوا بأرواحهم في سبيل هذه الأمّة». وتشير بتول في حديثها إلى الدور المهمّ الذي لعبته زوجة أبيها، فتقول: «في الحقيقة، هي بمثابة والدتي، وقد أنشأتنا جميعاً على هذا النهج الحسينيّ الجهاديّ، ثمّ ختمت حياتها مع أختي، التي كانت تبلغ 34 سنة وهي أمّ لطفلين، وصهري الشهيد علي بركات. كلّ هؤلاء الشهداء وغيرهم هم أبناء الإمام الحسين عليه السلام ، بحسب قول شهيدنا الأقدس سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)».
* عاشوراء... إرث الشهادة
رأت الحاجة أسمهان يوسف، وهي أمّ لأربعة شهداء، أنّ الله سبحانه فتح باب الشهادة لمريديها رحمة من لدنه، وأنّ أولادها الأربعة(8) ورثوا البطولة والشجاعة وحبّ الشهادة عن أبيهم الذي كان رفيقهم في ساحات الجهاد. تضيف: «تركت شهادة ابني مرتضى أثراً كبيراً في بقيّة إخوته، الذين اقتدوا به وتمنّوا نيل هذا الوسام العظيم». تقول الحاجة أسمهان إنّ شهيدها محمّد كان بطل عيتا الشعب، وقد تأثّر باستشهاده كثيرون لأنّه كان شجاعاً وصاحب بأس. وعند سؤالها عن موقفها من الشهادة قالت: «الشهادة ميراث الشيعة من عهد الإمام عليّ والحسينL، ونحن لا نبالي إذا سُفِكَت دماء شبابنا الزكيّة في سبيل هذا النهج». وأشارت إلى أنّ كثيرين باتوا يختارون زوجاتهم من عائلات قدّمت عدداً من الشهداء كي ينجبن لهم أبطالاً، تماماً كما فعل الإمام عليّ عليه السلام عندما تزوّج أمّ البنين لتنجب شجعاناً كأبي الفضل العبّاس عليه السلام .
وختمت أمّ الشهداء الأربعة حديثها بالقول: «مدرسة عاشوراء تمثّل الإرث العظيم للشهادة في الفكر الشيعيّ، والخزَّان الأكبر لقيم البطولة والفروسيّة والأخلاق الإنسانيّة». وأكّدت أنّها على استعداد لتُلبس وحيدها، الذي تبقّى لها بعد شهادة إخوته الأربعة، جعبته ليؤدّي تكليفه الشرعيّ كما فعل والده وإخوته. وهي تودّعه عندما يكون ذاهباً إلى عمله قائلةً: «الله معك، كفّي طريقك، ما تطلّع لوراك».
* الشهادة عزّ أبديّ
ننتقل الآن إلى زهراء باز، ابنة شهيد معركة أولي البأس المجاهد الحاجّ عبّاس محسن باز(9)، التي تقول إنّها نشأت في بيئة جهاديّة سارت على نهج الإمام الحسين عليه السلام وقدّمت العديد من التضحيات والشهداء؛ فوالدها الشهيد كان من مؤسّسي المقاومة، وقد اعتقله العدوّ الإسرائيليّ قبل عام 2000م. أمّا عمّها الحاجّ يوسف، فقد قدّم ثلاثة شهداء(10) وحفيدين، كان آخرهم الشهيد إسماعيل يوسف باز. وعلى الرغم من ألمها العميق لفراق أبيها وأبناء عمّها، إلّا أنّها تعتزّ بهم: «صحيح أنّني لم أحظَ بالكثير من الوقت معهم، إلّا أنّني أشعر بالعزّة لأنّهم ساهموا في تحقيق الانتصارات في محطّات مفصليّة عدّة». أمّا عن رأيها في الشهادة، فتقول: «هي عزّ أبديّ ورمز للنصر، والاستشهاد في سبيل الله فخر للأمّة جمعاء وشرف لا يناله أيّ كان».
ما زالت الفرضيات تتجاذب فيما بينها، لكنّ الأمر اليقين في كلّ ما نشهده، أنّ عوامل الحياة اجتمعت، وأنّ الله فتح باب الجهاد لخاصة أوليائه.
(1) استشهد في 11/6/1984م.
(2) استشهد في 21/12/1994م.
(3) استشهد في دمشق في12/2/2008م.
(4) استشهد في القنيطرة السوريّة في18/1/2015م.
(5) استشهد في 20/3/1996م.
(6) استشهد في 18/10/1998م.
(7) استشهد في 10/10/2024م.
(8) هم: الحاجّ مرتضى الشيخ علي يوسف (استشهد في اللاذقيّة في 30/4/2015م في معركة الدفاع عن المقدّسات)، والحاجّ أحمد الشيخ علي يوسف (استشهد في 8/6/2024م في معركة على طريق القدس)، والشهيدان بهاء ومنتظر الشيخ علي يوسف (استشهدا بغارة على الشهابيّة في معركة أولي البأس في 17/11/2024م).
(9) استشهد في 17/10/2024م.
(10) هم: الشهيد حسين يوسف باز (استشهد في 14/4/1990م)، والشهيد عليّ محمّد باز (استشهد في 10/8/2017م في معارك الدفاع عن المقدّسات)، والشهيد القائد إسماعيل يوسف باز (استشهد في 16/4/2024م بغارة من مسيّرة على طريق عين بعال).