تحقيق: زينب نعمة
دخلت العيادة مرتديةً ثياباً سوداء، وتُمسك بذراع شابٍّ معصوب العينين، مضمّد الكفّين. عاتبها الطبيب مستنكراً تفويتها موعد المراجعة الطبيّة لابنها جريح «البايجرز»، أجابته بهدوء وهي تساعد ابنها على الجلوس: «يومها شيّعنا أخاه الشهيد إلى مثواه، وبطلنا الحيّ جاهزٌ للفحوصات اللّازمة اليوم» وابتسمت. أشاح الطبيب برأسه محاولاً إخفاء تأثره: «أخبريني سيدتي كيف تعيشون؟ ما زلت واقفة وتبتسمين؟».
هكذا هو مجتمع المقاومة وعوائل الجرحى والشهداء، لا وجود في قاموسهم لكلمة استسلام أو هزيمة، نراهم بعد كلّ نكبة يشحذون همّتهم وينهضون بعزيمة أكبر وأقوى على قاعدة: «ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً»، و«كلّ ما كان في طريق رضى الله هو هيّن». سنعرض في هذا التحقيق بعض هذه النماذج، ثمّ نعرض كيفية التغلّب على تداعيات الحرب وآثارها النفسيّة.
* أقوى من قيد الأسر
«إنّ الحياة كلّها وقفة عزّ»، بهذه العبارة بدأت السيّدة سكنة بزي كلامها لمجلّة بقيّة الله. حشد هائل من المعنويّات يختزن كلام الأسيرة السابقة في معتقل الخيام، وأمّ الشهيد أحمد أيوب، وجريح «البايجر» محمّد حسين، بحيث يُدهش المرء كيف لسيّدة مرّت بهذا القدر الكبير من المعاناة أن تكون نموذجاً فريداً للقوّة والثبات والبأس! أُسرت الحاجة سكنة بزي وهي في سنّ السابعة عشرة، حيث أمضت في معتقل الخيام خمس سنوات بسبب دعمها للمقاومين قبل تحرير الجنوب من المحتل.
عندما بدأت معركة طوفان الأقصى، رفضت العائلة مغادرة منزلها في مدينة بنت جبيل، حتّى بداية معركة أولي البأس حين اضطرّت إلى السفر إلى إيران بعد إصابة ابنها في مجزرة «البايجر» لترافقه في رحلة العلاج الطويلة. تصف جراح ابنها بالكرامة التي أنعم الله بها عليها وعلى عائلتها، وأنّها وسام فخر لهم في الدنيا والآخرة، وقالت: إنّ عينيه ويده فداء لهذا النهج الشريف.
ولم تنتهِ فصول النضال هنا، إذ تبع ذلك شهادة ابنها الصغير أحمد الذي عرج مخضّباً بدمائه الزكيّة، لتعود السيدة سكنة وتقوم وزوجها بتجهيز شهيدهما وتكفينه بأيديهما. أمّا عن سبب هذه العزيمة فتقول: «كلّ ما لدينا من عاشوراء»، فهو الشعار الثابت الذي لا يتزلزل، جسّدته الحاجّة سكنة بزي وعائلتها قولاً وفعلاً ونضالاً عبر كلّ هذه التضحيات.
* عوائل شهداء أولي البأس: عزيمة ويقين
يُجمع عوائل الشهداء على أنّ الشهادة مفخرة وكرامة خصّ بها الله عزّ وجلّ عائلة الشهيد. تتحدّث السيّدة دعاء حطّاب، زوجة الشهيد قاسم نعمة، للمجلّة عن شهادة زوجها في معركة أولي البأس. تلخّص حطّاب التجربة بالبلاء المقرون بالألطاف الإلهيّة والكرامة العالية كي يرتفع مقام الإنسان.
مرّت هذه العائلة ككلّ عوائل الشهداء بفترة حزن طبيعيّة جدّاً، ولكن ما بعد الأسى إرادة وعزم لا ينكسران. تخبرنا السيّدة حطّاب عن تفاصيل عودتها لحياتها بعد الفقد: «لم يكن الأمر سهلاً، بحيث استعنت بأصدقاء متخصّصين في المجال النفسيّ لإخبار أطفالي الثلاثة بشهادة والدهم بطريقة تراعي أعمارهم وخصائصهم النفسيّة. شيئاً فشيئاً بدأت الحياة تأخذ مسارها الطبيعيّ بالاستعانة بالله بالدرجة الأولى والتوكّل عليه، إضافة إلى الإيمان أنّ هذا الاختبار ترقية في الدنيا وثواب ومنزلة في الآخرة». على الرغم من الفراغ الكبير الذي يُحدثه غياب ربّ الأسرة، إلّا أنّ الإرادة القوية لزوجات الشهداء هي التي تصنع فرقاً، خاصّة في موضوع تلبية حاجات الأولاد الجسديّة والنفسيّة والعاطفيّة.
كتبت دعاء على صفحتها على وسائل التواصل: «إنّ طريق الله طويل، جميل وغامض، إن ما فهمناه هانت الصعوبات وقلّت الزلّات وتحوّلت البلاءات إلى (لم نرَ إلّا جميلاً). تقبّل منّا القرابين يا الله من أجل أن نصلَ إلى ما تحبّ أنت دون سواك».
* العودة إلى الحياة الطبيعيّة
عن الإمام عليّ عليه السلام : «الصبرُ صبران: صبرٌ على ما تكره، وصبرٌ عمّا تحبّ»(1)، وقد قدّم الظرف الصّعب أوّلاً، لأنّه الأكثر حاجةً إلى الثبات والصبر وإعادة العمل.
ككلّ حرب، ينقسم الناس الذين يقدّمون التضحيات إلى ثلاث فئات هي:
1. الذين فقدوا ممتلكاتهم الماديّة من سيارات وبيوت وغير ذلك، وهم الأغلبيّة الساحقة بسبب الكمّ الهائل من الدمار الذي خلّفه العدوان، والذي أدّى أيضاً إلى تضرّر عشرات آلاف المنشآت والأبنية.
2. الذين قدّموا شهداء، وهم الفئة الأكثر تضرّراً لأنّ الروح لا تُعوّض، وألم الفراق صعب ومرير.
3. الذين جُرحوا وأُصيبوا بإعاقات دائمة أو مؤقّتة، وهي الفئة التي تحتاج إلى دعم نفسيّ هائل لما للجراح من أثر جسديّ ونفسيّ صعب على الإنسان.
على الرغم من صمود جمهور المقاومة وعدم استسلامه، إلّا أنّ هذا الواقع المرير سيترك آثاراً سلبيّة، بطبيعة الحال، في مختلف المجالات. فكيف يستطيع هؤلاء التغلّب على الصعوبات رغم كلّ التضحيات التي قدّموها؟
في حديث لمجلّة بقيّة الله، يشدّد الأستاذ والباحث الدكتور علي عباس على أنّه كلّما ازداد إيمان المجتمع والفرد، ازدادت حصانتهُ ومرونته وجدارته في التغلّب على أكثر الظروف حرجاً وصعوبة، وتجاوزها بنجاح.
كما يدعو د. عبّاس إلى ترسيخ «العقليّة المضادّة للهزيمة»، وخصوصاً في أحلك الظروف وأصعبها، وهي من أهمّ الأمور التي يجب العمل عليها حتّى لا يقع أحد في دائرة اليأس أو الضعف، وهي كانت أيضاً عاملاً من عوامل القوّة والثبات لدى جمهور المقاومة، انطلاقاً من تحفيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا بطريقة إيجابيّة نحو استعادة العافية بقوله: «ما ضعُفَ بدنٌ عمّا قويت عليه النيّة»(2).
* خطوات لاستعادة السيطرة
1. التوازن: لتخطّي أيّ أزمة أو صعوبات يجب تحصيل التوازن، لأنّ الله فطر الإنسان ومن بعده المجتمع على إعادة تحصيل الحياة المتوازنة التي بدورها تساعد في تحقيق الإنجازات مهما تفاقمت التحدّيات. والتوازن يتضمّن الاعتدال ما بين الأمر الواقع والظرف المأمول، والرّوحانيّات والماديّات، وأسباب النصر وأدواته، وإعمال العقل واستثمار العاطفة؛ كلّ هذا يؤدّي إلى تحقيق التوازن الداخليّ والخارجيّ للإنسان.
2. دور المحيط: على الصعيد العمليّ، يأتي دور المحيط الإيجابيّ والأشخاص الناضجين والإيجابيّين، الذين يمتلكون الإيمان والوعي، بدون الانسلاخ عن الواقع. هؤلاء الأشخاص يُحدثون تأثيراً ملحوظاً في المجتمع، ويخلقون حالة وعي وإدراك تساعد الناس على الخروج من كلّ الإحباط والشعور بانعدام الطاقة والشغف.
3. ممارسة الرياضة: للرياضة دور مهمّ في تنفيس الضغوطات، خاصّة عند ممارستها في الهواء الطلق، كالمشي في الطبيعة، وكذلك التأمّل وتناول الطعام الصحيّ.
* التغلّب على حالة التشتّت والقلق
1. استحضار الروتين الحياتي السابق: إنّ ظروف الحرب القاسية التي ما زلنا نمرّ فيها كفيلةٌ بتشويه جزءٍ لا بأس به من أفكارنا وذاكرتنا، وبإحداث تغيير في بعض العادات البسيطة، وتشتيت لنظام الحياة، ولا سيّما عند الذين فقدوا أحبّة؛ لذلك، فإنّ إعادة التزام العادات الصغيرة السابقة في نظام الحياة هي أحد أهمّ مفاتيح التغلّب على التشتّت الناتج عن الأزمات. فقد ورد في الحديث النبويّ: «ما من شيء أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من عمل يُداوَم عليه، وإن قلّ»(3).
2. الحدّ من «الضجيج المعلوماتيّ»: وتقليله بشكلٍ كبير، وذلك بتجنّب التعمّق المفرط في سيل المعلومات والأخبار التي تبثّها وسائل التواصل الاجتماعيّ، والتي قد تُرهق النفس وتؤثّر فيها سلباً.
3. ممارسة فنّ «مجاهدة النفس الهادئة»: في هذه الأوقات الصعبة، يجب التعامل مع النفس بحكمةٍ ومرونةٍ تلحظ ما هيَ فيه من ضعفٍ أو ألم، وتجبرهُ باليقين والإيمان العميقين، والمثابرة التدريجيّة على استعادة السلوك وتطويره وتأهيله لقيادة المرحلة القادمة.
كلّ ما جرى ويجري بعين الله وبين يدي سلطانه، ومسؤوليّتنا أن نثابر ونتوكّل عليه والرضى بالمشيئة الإلهيّة، على أن يترافق ذلك مع العمل الدؤوب والمثابرة للوصول إلى نهوض تامّ والخروج من عين العاصفة.
(1) نهج البلاغة، ج 18، ص 189.
(2) ميزان الحكمة، العلامة الريشهري، ج4، ص 3410.
(3) الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 82.