اعلم أيّها العزيز، أنّ في السورة الشريفة (الحمد)، إشارةً إلى كيفيّة سلوك أرباب المعرفة؛ فإذا ارتقى السالك، وخرج من الحُجب النورانيّة والظلمانيّة، وأتمّ السير إلى الله في ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ (الفاتحة: 4)، فإنّه يصحو إلى مقامه تعالى ويتوجّه إليه. ومن هذه الجهة يقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ (الفاتحة: 5)، بتقديم ضمير (إيّا) و(كاف) الخطاب على ذاته وعبادته. وبما أنّ هذه الحالة تتطلّب الثبات، لكن يُتصوّر فيها حدوث زلّة، فإنّ السالك يطلب من الحقّ تعالى تثبيته ولزومه، بقوله: ﴿اهدِنَا﴾ (الفاتحة: 6)؛ أي ألزمنا الثبات.
•الصراط المستقيم
في عُرف أهل السلوك، المقصود من الهداية إلى الصراط المستقيم هو الهداية إلى أقرب طرق الوصول إلى الله؛ وهو طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وقد فُسّر برسول الله وأئمّة الهدى وأمير المؤمنين عليهم السلام، كما ورد في الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسم خطّاً مستقيماً، ورسم في أطرافه خطوطاً، وبيَّن صلى الله عليه وآله وسلم أنّ هذا الخطّ الوسط المستقيم له؛ ولعلّ هذا هو المراد من (الأمّة الوسط) في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: 143).
الوسطيّة مقام عظيم يختصّ بالكُمّل من أولياء الله. ولذا، ورد في الرواية أنّ المقصود من هذه الآية أئمّة الهدى عليهم السلام، كما قال الإمام الباقر عليه السلام ليزيد بن معاوية العجليّ: "نحن الأمّة الوسط، ونحن شهداء الله تبارك وتعالى على خلقه"(1).
• عشق الكمال
اعلم أيّها الطالب للحقّ وللحقيقة، أنّ الحقّ تبارك وتعالى، لمّا خلق نظام الوجود ومظاهره، خلقه على حسب الحبّ، بمقتضى الحديث القدسيّ الشريف: "كنت كنزاً مخفيّاً، فأحببتُ أن أُعرف، فخلقتُ الخلق لكي أُعرف"(2)، فأودع في فطرة جميع الموجودات الحبّ الذاتيّ؛ فجميع الموجودات، بتلك الجذبة الإلهيّة ونار العشق الربّانيّ تتوجّه إلى الكمال المطلق، وتطلب الجميل على الإطلاق وتعشقه. ثمّ جعل سبحانه لكلّ واحد منها نوراً فطريّاً إلهيّاً، يجدُّ له طريق الوصول إلى المقصد والمقصود. فذاك النور نور هداية الحقّ تعالى، وتلك النار نار التوفيق الإلهيّ، والسلوك الطريق الأقرب هو الصراط المستقيم. ولعلّ الإشارة إلى هذه الهداية وهذا السير وهذا المقصد هي الآية الشريفة: ﴿مَا مِن دَآبَّةٍ إلّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (هود: 56).
وليعلم، أنّ لكلّ موجود من الموجودات صراطاً ونوراً وهداية خاصّة به. وبما أنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، والإنسان جامع الموجودات، فصراط الإنسان أطول الصُرط وأظلمها. ولأنّه جامع مظهر الكمالات الإلهيّة المتقابلة منها على السواء (الرحمة والقهر)، فيكون صراطه أدقّ من جميع الصُرط.
•الهداية
إنّ للهداية مراتب ومقامات، نشير بطريق الإجمال إلى بعض مقاماتها:
1- نور الهداية الفطريّ.
2- الهداية بنور القرآن.
3- الهداية بنور الشريعة.
4- الهداية بنور الإسلام.
5- الهداية بنور الإيمان.
6- الهداية بنور اليقين.
7- الهداية بنور العرفان.
8- الهداية بنور المحبّة.
9- الهداية بنور الولاية.
10- الهداية بنور التوحيد.
ليعلم أنّ في كلّ مرتبة من هذه المراتب الصراط المستقيم وصراط المفرطين، الذين هم ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: 7).
ولكلّ صراط في كلّ مرتبة، طرفان: إفراط وتفريط، وغلوّ وتقصير. فيكون ﴿المَغضُوبِ عَلَيهِمْ﴾ هم طرف التفريط، أمّا ﴿الضَّالِّينَ﴾ فهم طرف الإفراط.
•فضل سورة الحمد
في ختام تفسير هذه السورة، نذكّر ببعض الروايات الشريفة التي بيّنت فضل هذه السورة المباركة:
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لجابر بن عبد الله الأنصاريّ (رض): "يا جابر، ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه؟ فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، علّمنيها. فعلّمه الحمدُ، أمُّ الكتاب، ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا جابر، ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أخبرني. قال صلى الله عليه وآله وسلم: هي شفاءٌ من كلّ داء إلّا السأم [الموت]"(3).
- عن الإمام الصادق عليه السلام: "لو قرأت الحمد على ميّت سبعين مرّة، ثمّ ردّت فيه الروح ما كان عجباً"(4).
(*) مستفاد من كتاب: الآداب المعنويّة للصلاة، الإمام الخمينيّ قدس سره، المصباح الثاني، الفصل الخامس.
1. الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 191.
2. تفسير الصراط المستقيم، البروجردي، ج 3، ص 316.
3. بحار الأنوار، المجلسيّ، ج 89، ص 237.
4. (م. ن.)، ص 257.