سماحة الشيخ نعيم قاسم (حفظه الله)
المقاومة هي رؤيةٌ مجتمعيّة بكلّ أبعادها. هي مقاومةٌ عسكريّة، وثقافيّة، وسياسيّة، وإعلاميّة. هي مقاومةُ الشعب والمجاهدين، ومقاومةُ الحاكم والأمّة، ومقاومةُ الضمير الحرّ في أيّ موقع كان، ولذا الدعوة هي دائماً لبناء مجتمع المقاومة، فلا تكفي مجموعة المقاومة؛ لأنَّ مجتمع المقاومة يحمل الاستمرارية، أمّا مجموعة المقاومة فأداؤها ظرفيّ.
* الشهادة طريق إلى الهدف
والإسلام يؤمن بالشهادة طريقاً لتحقيق الهدف، وهي تتطلَّب رعايةَ ضوابطَ دقيقة للوصول إليها، فمخطئ من يظن أنَّ الشهادة هدف، فالهدف هو سبيل الله تعالى، والشهادةُ طريقٌ إلى هذا الهدف، كما إنفاقُ المال وكذلك الاستقامة طريقٌ إلى هذا الهدف. هذه الشهادة تدفع الإنسان إلى المقدِّمة، وتعيد بناء تربيته. إنّها ضدّ المحتلّين والظالمين، ولذا يجب التمييز بين الاستعداد للشهادة والإقدام عليها، فليس المقصود من ثقافة الشهادة أن تنحصر حركة المؤمنين في اتجاه السعي للشهادة وإنَّما في اتجاه توفر الاستعداد الكامل للتضحية بالنفس، عندما يتطلّب الموقف ذلك. وهنا، تمثِّل الشهادة آخر خطوة بعد استنفاد كل الجهود، لتكونَ السلاح الأمضى في المواجهة في حال عدم تكافؤ القوى، فتحقّق النتيجة الفعّالة للدفاع المشروع عن الموقع وتحصين الهدف.
* في الشهادة... الموت سعادة
والشهادة مع كونها أمنية القرب الأرقى من الله عزّ وجلّ، إلّا أنها مقيّدة بالزمان والمكان المناسبَين. هي جزء من التكليف الشرعيّ بضوابطه، وتصبح واجبة عند انحصار الخيارات بها، كما حصل مع الإمام الحسين عليه السلام عندما قال: «إنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، والحياة مع الظالمين إلّا برَماً»(1)، إذ انحصرت خياراته باثنين هما: الموت العزيز أو الاستسلام الذليل، وكان لا بدَّ من أحدهما، فاختار الشهادة بعزّة، على الاستسلام للظالمين بذلّ.
هذا الإمام العظيم، الذي قاتل في كربلاء، هو الذي صبر مع أخيه الحسن عليه السلام خلال حكم معاوية، لأنّه كان يرى خيارات أخرى قبل الوصول إلى خيار الشهادة. وبما أنَّ أمانة النفس الإنسانية عظيمةٌ عند الله، لا يمكن لأيّ إنسان أن يستهتر بها، ولا أن يتسرَّع في زجِّها في مواقع الخطر والموت، أو أن يتَّخذ قراره بالشهادة في كل حادثةٍ أو صعوبةٍ تواجهه. فالعطاءُ النبيل للشهادة، والتي هي ثمرة الدفاع المشروع في التوقيت والزمان المناسبين، يجب أن يكون بقرار من القيادة الشرعية الحكيمة المسؤولة التي تحمل مسؤولية الدماء، إذ لا يستطيع أي فرد من الأفراد أن يذهب ويقدِّم نفسه كيفما كان.
* انتصار على النفس
إنّ الدرجة العليا للشهداء عند الله تعالى تجعل الشهادة في هذا الواقع وهذه الأهمية، وتحفِّز المؤمنين للطموح إلى تحصيلها، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ (التوبة: 20)، وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «فوق كل ذي برٍّ برّ، حتى يُقتل الرجل في سبيل الله، فإذا قُتل في سبيل الله فليس فوقه برّ»(2). وفي خطبة السيدة زينب عليها السلام في مواجهة ابن زياد قالت: «الحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوَّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة»(3). فالشهادة خطّ متواصل مع الحياة الحقيقية.
إنَّ الانتصار على النفس بالاستعداد للشهادة يختصر طريق الصراع مع النفس الأمَّارة بالسوء ليحوِّلها إلى نفسٍ مطمئنة، ويرقى بالإنسان إلى أعلى درجات الاستقامة، ويساعده في استيعاب دوره ومكانته في هذه الدنيا كمعبرٍ إلى الآخرة. وبما أنَّ الموت مرتبط بالأجل، والأجل بيد الله تعالى، ﴿فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (النحل: 61)، فخيرٌ للمرء أن يختار طريقاً يمكن أن يوفِّقه للشهادة، من أن يموت على فراشه، وهو قادرٌ أن يصنع طريقه إلى الموت من أجل الحياة، إذا وفَّقه الله تعالى لذلك.
* الخضوع للاحتلال موت
الشهادة هي ثقافة الحياة الحقيقية والعزيزة في مقابل ثقافة الموت. قيم الشهادة نبيلة، فالشهادة حياة، والتبعية والذلُّ موت. السيادة حياة، والوصاية موت. تحرير الأرض حياة، والخضوع للاحتلال موت. عن الإمام عليّ عليه السلام: «فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»(4)، هكذا نفهم الحياة.
على هذا الأساس، تأتي المواجهة بين الحقّ والاستقامة والتحرير والفضيلة والعدالة، في مقابل الظلم، والعدوان، والاحتلال، والفساد، والطغيان. عندما لا تملك الأمة أو الثلَّة المخلصة فيها القدرة المادية والعسكرية لمواجهة الكثرة وإمكاناتها، وعندما تقف الأمة أمام خيارين: إمَّا الاستسلام وإمَّا الوقوف والصمود، حينئذٍ لا بدَّ من اختيار الصمود مهما كانت كلفته، وهنا يأتي دور الجهاد ودور الشهادة.
* سرّ قوّتنا
فالشهادة، إذاً، تعالج خلل التوازن في الإمكانات، ومع الاستعداد للشهادة يبطل مفعول القوّة بالتخويف بالقتل، والموت؛ ما يعطي قوّة إضافية للمؤمنين، ويربك العدو العاجز عن إخافتهم، ويقوِّي عامل الرفض في الأمّة، فيجعلها عصيَّة على مؤامرات الأعداء، ولا نبالغ عندما نعطي هذه القيمة الكبيرة للاستشهاد، لأنّ التجربة الواقعية قد أثبتت فعالية هذا الخيار.
قوَّة المؤمن حقٌّ إنساني مع تمنّي الشهادة، أمَّا قوة الظالم فمادّةٌ وإمكانات مع جبن وخوف. ولذا، في كل مراحل التاريخ، كان الإنسان ينتصر دائماً على القوة والمادة عندما تتوفر لديه الإرادة، وعندما يرتبط بالله تعالى.
(1) تاريخ الطبري، الطبري، ج4، ص304.
(2) الكافي، الكليني، ج2، ص348.
(3) بحار الأنوار، المجلسي، ج45، ص135.
(4) نهج البلاغة، الخطبة 51.