آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص مجتمع | "الأمّ بتلمّ" مناسبة | من رُزق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حُبّها

قرآنيات: تفسير سورة قريش (*)


الإمام المغيّب السيّد موسى الصدر (أعاده الله ورفيقيه)


بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ* إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (قريش: 1 - 4).
صدق الله العليّ العظيم

أعادت واقعة الفيل، التي تحدّثنا عنها سابقاً، إلى جماعة قريش مجدهم واحترامهم ومركزيّتهم، وأصبحت الزيارات وعدد الحجيج إلى مكّة أكثر، ولم يعد أحد يتعرّض لهم في رحلاتهم التجاريّة. وبهذه الطريقة، أوجدت واقعة الفيل "إيلاف قريش"؛ أي أُلفتهم، واستقرارهم، وأمنهم من الخوف والجوع، وتجمّعهم حول الكعبة بسلام، واصطفاف كلمتهم. فما هي ظروف نزول هذه السورة؟ وما هو تفسيرها؟

* أمن قريش
لم يكن في مكّة من الثمرات والرزق والمواد الغذائيّة ما يُغني أهلها، وما يقدّم لهم وسائل الحياة، فدعا النبيّ إبراهيم عليه السلام الله أن يرزق أولاده وذريّته من الثمرات، فاستجاب الله دعاءه، وأصبحت مكّة معبداً وملجأ ومزاراً للعرب. وكان من نتيجة سير الحجّاج والزوّار والتجارات إلى مكّة، أن انتعشت أحوالها الاقتصاديّة؛ فازدهرت التجارة، ونما فيها الزرع والثّمرات.

وكان أهل مكّة، يقصدون في تجارتهم وجهتين: الأولى: الوجهة التي كانوا يقصدونها في فصل الشتاء؛ طريقها من مكّة إلى الشام. والثانية: الوجهة التي كانوا يسلكونها في فصل الصيف؛ طريقها من مكّة إلى اليمن. وقد سار النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قبل الرسالة، في هذه الرحلات، أكثر من مرّة.

قبل الإسلام، كان ثمّة إمبراطوريّات قويّة، مثل إمبراطوريّة الفرس، وإمبراطوريّة الروم، وغيرهما، كذلك جنوب الجزيرة؛ اليمن وعدن وغيرهما، وُجدت حكومات، إمّا قويّة مستقلّة، وإمّا تابعة للحبشة. أمّا مكّة، فلم تتمتّع أبداً بحكمٍ قويّ، ولا بدولةٍ متينةٍ تحفظ أهلها من الغارات ومن الأعداء، والهجمات؛ فقد كان النظام العشائريّ والقبليّ مسيطراً عليها حتّى وقعت واقعة الفيل، ونتيجةً لها استعادت مكّة مكانتها، وقريش أمنها.

* معنى كلمة "قريش"
ثمّة من يقول إنّ كلمة "قريش" اسم لـ"نضر بن كنانة"، جدّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم؛ إمّا لأنّه قتل دابّة في البحر اسمها قريش، أو لأنّ قريشاً كانت دابّةً أو حيواناً في البحر يأكل كلّ شيء، فكُنِّي "نضر" وأولاده بـ"قريش"؛ لأنّهم كانوا أقوى من كلّ القبائل. وثمّة من يقول إنّ "قريشاً" مشتقّة من كلمة "قَرَشَ"؛ أي اجتمع بعد التفرقة؛ فقريش هنا تعني "المجتمعون".

* في التوحيد.. قوّتهم
مهما كان سبب التسمية، تشير الآية الكريمة إلى حقيقة مفادها: إنّ تفرّق قريش واختلافهم وانفصال بعضهم عن بعض، هو نتيجة تعدّد آلهتهم، واتّخاذ كلّ قبيلة إلهاً، وبهذه الطريقة، قد حصل بينهم انفصال قطعيّ، وأصبح لكلّ قبيلةٍ وحدةٌ اقتصاديّةٌ صغيرة؛ فتعدّد الآلهة يدفع بكلّ قبيلة لأن تنفصل عن الأخرى بكلّ وجودها.

فعبادة "هُبَل" و"لات" و"عِزّى"، وغيرها، تجعل تفرّقهم وتشتّتهم وانفصالهم أمراً أكيداً. فإذا كنتم يا قريش، تريدون الإيلاف والسلام في مكّة، وتريدون تحقيق نجاحٍ في الطريق إلى الشام وإلى اليمن، فنجاحكم بقوّتكم، وقوّتكم بوحدة كلمتكم. وإذا كنتم تريدون وحدة الكلمة، التي هي أساس عزّكم في مكّة وفي رحلاتكم الشاميّة واليمنيّة، فاعبدوا ربّ هذا البيت، إلهاً واحداً.

ثمّ إنّ لهذا الإله فضلٌ كبيرٌ عليكم؛ لأنّه على الرغم من أنّكم كنتم قلّةً وضعافاً، تخافون أن يتخطّفكم الناس، وعلى الرغم من أنّكم كنتم لا تملكون قوّة الدفاع عن أنفسكم، كما ثبت ذلك في واقعة الفيل، وعلى الرغم من أنّكم سكنتم ﴿بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ﴾ (إبراهيم: 37)، فلا تملكون من المال والثروة شيئاً؛ إلّا أنّ ربّ البيت ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾. فإذاً، لأجل هذه الفوائد الماديّة، من القوّة والوحدة، ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾. وفي عبادة ربّ هذا البيت ملتقى الجميع ومركزهم، وعندها يحصل إيلاف قريش: ﴿إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ﴾..

* ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾
على الرغم ممّا عاناه النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم من أذى قريش وحقدهم وخصوماتهم، حتّى أنه قال لما لقي من العذاب: "ما أوذي نبيّ مثلما أوذيت"(1). ولكنّ الثلّة المؤمنة من حملة الرسالة، كانوا ضمن مَن قال عنهم تعالى: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110)، لماذا؟ لأنّهم كانوا يتمتّعون بصفات حَمَلة الرسالة: التحرّر، والقوّة، والصلابة، والصفاء النفسيّ، وعدم الخنوع أو الاستسلام للسلطات الماليّة والاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة. هذه الصفات كانت ثروةً كبرى في نفوس عرب الجزيرة، فكان المؤمنون منهم أحسن حملة لرسالة الله سبحانه وتعالى، وقد وفّقوا في ذلك. وهذه الأجواء كلّها كانت ملائمةً لرسالة رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم.

والجدير ذكره في هذا المقام، أنّ محاولة سيطرة "أَبرهة" وجيشه، على مكّة، كما مرّ سابقاً في سورة الفيل، كانت تهدف إلى إذلال قريش، والله سبحانه وتعالى لم يَرِد إذلالهم؛ فحينما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكّة، كان بعض جماعته ينادي: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة"(2). فطلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تغيير هذا الشعار، وقول: "اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزَّ الله قريشاً"(3). إذاً، لم يُرِد الله أن يذلّ قريشاً، وأن يجعلهم خاضعين مستسلمين لسلطان حاكمٍ في الجنوب أو في الشمال، أو لسلطان أجنبيّ، فأصبحوا مستقلّين أحراراً؛ لأنّ الإنسان الحرّ، ولو كان ضعيفاً فقيراً عاجزاً جاهلاً، أفضل من الإنسان الغنيّ العالِم المتحضّر، الذي يكون عبداً لشهواته، ومستسلماً وخانعاً لأعدائه.

* الثروة الأصليّة
ماذا نستفيد من هذه السورة المباركة؟

هذه السورة تدعونا إلى التحرّر الذاتيّ والنفسيّ والخلقيّ، وإلى عدم الذوبان أو الخنوع، أو الاستسلام لنداء الأجنبيّ، شرقيّاً كان أم غربيّاً. فلنعتمد على أنفسنا، كما فعل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بداية تكوين هذه الأمّة؛ فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ حَجَرًا فيشدّه على بطنه لكثرة الجوع. وكذلك كان أهله وأصحابه.

هؤلاء كانوا يقاسون أصعب الظروف، ولكنّ إخلاصهم لله وإيمانهم بقضيّتهم، هما سبب نجاحهم وعزّهم. وهذا هو الرأسمال الأساس، والثروة الأصليّة لنا جميعاً.


(*) مسيرة الإمام السيّد موسى الصدر، ج 10، سورتا الفيل وقريش، الجزء الثاني، ص 286، بتصرّف.
(1) المناقب، الخوارزمي، ج 3، ص 247.
(2) بحار الأنوار، المجلسي، ج 21، ص 130.
(3) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 17، ص 272.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع