نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناسبة: الجدّة: أمومةٌ لا تشيب

تحقيق: كوثر حيدر


شكراً سيّدتي، على العطف الذي لم يبلغ عجزاً مع عجز السّنين. شكراً لمسيرةِ تضحيةٍ حافلةٍ وامرأةٍ من حديد، وهبتْ ما كان من عمرٍ وروح قرباناً. وليس العذر أقلّ قدراً، فالعذر على قدر الشّكر، لامرأة من أجلها انحنت الجنان والأرضون مرّتين، مرّةً كانت مع مَن خرجوا مِن رحم حبّها، وأخرى قدّمت فيها قوت عمرها للأحفاد الذين خرجوا من هذا النّسل. لأمثالك سيّدتي.. الشّكر على قدر العمر.. حتّى يفنى!

* أمٌّ بين جيلين
"فاطمة" أمٌّ لستّة أولاد، كانت تُلقّب بـ"الأمّ الصّغيرة"، فقد تزوّجت في عمر (16 عاماً). كانت تتعلّم ألف باء الحياة الزّوجيّة والأمومة. عملت وزوجها "عليّ"، أنجبت وربّت، وصار لديها أسرتها الصّغيرة.
مسيرة عطاء حتى كبُرت العائلة لتُصبح أربعة شبّان وفتاتين، والجميع في عمر الكفاح الجميل... والزواج.

اليوم فاطمة تقارب الخمسين عاماً. الهالات الّتي تشي بمرور الزّمن واضحة على البدن الذي حمل جيلاً. وها قد صارت فاطمة "الجدّة" وعادت لممارسة أمومتها مع جيل جديد وزمن أكثر تعقيداً من بساطة الرّبيع الّتي افتتحت أمومتها عليها بسبب غياب الأمّهات للعمل أو الدراسة. وبكلّ قوّة الحبّ الّتي في صدرها، وكهولة البدن الضّعيف، تشارك أبناءها تربية الأحفاد إيماناً منها باستمرار العطاء الّذي لا ينقضي إلّا مع انقضاء العمر.

* يوميّات "الجدّة"
موعد الغداء المعتاد، نظافة المنزل الدّائمة، اجتماع العائلة برمّتها على طاولة الطّعام.. كلّها تفاصيل لا تغيب عن بال الجدّة، لكن تتعبها من دون أدنى شكّ، "الأحمال الثّقيلة على العمر المخمليّ بحاجة إلى لَفتة العاملين والعاملات من وقتٍ لآخر" حسبما تقول. "جود" و"مهدي" ابنا ابنها البكر، صعبا الطّباع، و"حسن" -الأب- يعتبر أنّ دلال الجدّة الزّائد هو السّبب، على عكس ما تعتقده هي، فحزم "حسن" وزوجته مع الأولاد ليس سليماً دائماً!! وما بين هذا الرأي وذاك تتصادم التّربية بين الأبناء والجدّة، وتدخل في ازدواجيّة الأدوار، ما ينعكس سلباً على الأولاد.

ولعلّ الأوضاع الاقتصاديّة الصعبة في هذه الأيام هي التي تُضطّر الزّوجة إلى مشاركة زوجها العمل خارج المنزل. وخروجهما معاً قد يفرض بقاء الأطفال لدى الجدّات.

* ازدواجيّة الأدوار
دائرة التّربية الجديدة هذه تَطرح إشكالاً كبيراً في العلاقة ما بين الأمّ وطفلها، بسبب ازدواجيّة الأدوار في التّربية، وما تتركه من ترسّبات وآثار في بناء الشّخصيّة. هذه العناوين وغيرها تحدثنا عنها في مقابلة مع الأخصائيّة التربويّة د. مريم رعد حيث بدأت بتوضيح الإيجابيّات:

1- تعويض الثّغرات:

حيث تعمل العائلة الكبيرة على سدّ الثّغرات الّتي قد توجد في العائلة الصّغيرة: الأمّ والأب والأولاد. وكلّما كبُرت العائلة كلّما زادت فرص التّرابط. فالمشكلة في العائلة الصّغيرة هي أنّ أيّ ثغرة في العلاقات، تظهر آثارها السلبيّة بشكل أسرع، والعائلات الصغيرة التي تحدّد العلاقات مع العائلة الكبيرة وتتّجه نحو الفرديّة، تزيد من نسبة وقوعها في المشاكل. ففرص تعويض الثّغرات الّتي قد يمرّ بها الطّفل بعيداً عن الأهل أكبر في العائلة الكبيرة.

2- المرجعيّة الاحترام أساسٌ في العائلة:
المرجعيّة في العائلة هي بمثابة السّلطة، بالمعنى الإيجابيّ؛ إذ لا تتمّ التّربية في غياب السّلطة. فالتربويّ الّذي يفتقر إلى السّلطة يعاني كثيراً، وهي المشكلة الأساسيّة الّتي يعانيها أغلب الأهالي في وقتنا الحاليّ: فقدان السلطة.
السلبيات

وهناك سلبيّة أساسيّة لنشأة الطفل في بيت الجدّة، وهي تشتّت المرجعيّة التربويّة الأساسيّة للعائلة؛ فتعلّق الطّفل بالجدّة بشكل قويّ يزعزع صورة المرجعيّة لديه. وعلى الجدّة أن تعي خطورة الموضوع، فتقدّم الدّعم بشكلٍ واعٍ للأمّ لتمارس دورها بشكل طبيعيّ. فللجدّة حضور جميل جدّاً في حيـاة الـطّفل لكن على أن لا يتجاوز دورها دور الأمّ.
وازدواجيّة المرجعيّة تساهم في هدم الثّقة لدى الأولاد؛ إذ تختلط عند الطّفل المفاهيم ما بين مسموح وممنوع. في مسألة الثّواب والعقاب قد تتعارض وجهات النّظر بين أمّ الطّفل والجدّة، لذا لا ينبغي، في هذه الأحوال، للجدّة أن تتدخّل أو توجّه الكلام الناقد للأمّ بحضور الطّفل بأيّ شكل، وإلّا فإنّنا نعطّل عمليّة الوصاية هذه أو المرجعيّة لدى الأمّ أو الأب.

وكلّما كانت المرجعيّة محدّدة كلّما ساعدنا الطّفل على بناء الثقة مع الواقع والمحيط. ولا بدّ من أن يتمّ الاتّفاق على الأسس الّتي يُثاب ويُعاقب عليها الطفل عند جميع الأطراف الّتي تشارك في التّربية. وهذا ما يسمّى "بناء الحدود" الذي يعزّز لديه الثّقة، وثقافة المنطق.

* بين الجدّة والأمّ
المرأة في مرحلة الرّشد المبكر؛ أي تحت 35 سنة غالباً، إذا كانت أمّاً جديدة مسؤولة عن تربية طفلها، تبقى في حالة توتّر وقلق مستمرّين تجاه طفلها. وقد لا يكون ذلك ظاهراً. ولكن هذا الأمر يختلف بالنّسبة إلى الجدّة، فهذا التّوتّر غير موجود، فهي في مرحلة الرّشد المتأخّر، وتُدرك أبعاد الأمور والنّتائج.

بعض العائلات يستبعد خيار الحضانة بسبب سوء الأحوال الاقتصادية، فتكون الجدّة الخيار الأفضل؛ لأنّها تحبُّه وتحبّ رعاية شؤونه. لكن قد لا تسمح لها صحّتها ولا قدرتها على القيام بهذا الحِمل. تداعيات هذا الأمر جسيمة وهو من الأمور الأكثر حساسيّة على الطفل وتعرّضه لتجربة سلبيّة عبر قضائه مدّة زمنيّة طويلة مع شخص لا طاقة له على الاهتمام والعناية به. وقد تكون الجدّة في حالة ضيق وتوتّر مستمرّين، لأنها لا تستطيع الإحاطة بكافّة شؤون الطفل، ما قد يؤثّر سلباً على صورة الذّات لدى الطّفل، ويُزعزع ثقته بنفسه. فهو لا يدرك أنّ جدّته تحبّه، لكنّها لا تقوى على الرّعاية به. آثار هذا الموضوع على المدى الطّويل خطيرة جدّاً.

* الأمّ هي الشّخص المانح للرّعاية الجدير بالثّقة

الشّخص الّذي يقوم بدور الرّعاية نطلق عليه لقب "الشّخص المانح للرّعاية الجدير بالثّقة". بيولوجيّاً الأم هي التي تلد، لكنّها قد لا تمارس دورها، فتنشأ علاقة التّعلق الصّحي بالجدّة، أو الأخت الكبرى أو أيّ شخص يبني علاقة ثقة مع الطّفل، فيكون "المانح للرّعاية الجدير بالثّقة" هو الذي يعمل على إشباع حاجات الطّفل النّفسيّة والبيولوجيّة، وهو من يصبح الأمّ بالنسبة إليه. فالانتباه هو هبة ثمينة نقدّمها للطّفل. والأمّ، إن تنحّت عن هذا الأمر، تتحوّل لأمّ بيولوجيّة فقط. لذا، على الأمّ أن تبني منزلها، ببناء علاقة نفسيّة مع العائلة.

* "أنتِ الأساس"
يجب اتّباع القاعدة الذّهبيّة الّتي نشأ عليها الطّفل، "أنا جاهزة لتقديم المساعدة عندما تريدها". عندما تبدي الأمّ (الابنة) أيّ إشارة تدلّ على استقلاليّتها، على الجدّة (الأمّ) أن تنسحب مباشرة حتّى تمنحها فرصة النّمو. الأمّ الجديدة قد ينتابها بعض المخاوف إزاء الاعتناء بمولودها الجديد، هنا الجدّة تحضر بقوّة لكن تبعث لأمّه الرّسائل المبطّنة "أنتِ الأساس".
 

* حقّ الأم
لم ينسج أحد عذباً في حقّها أبداً كما فعلت هذه الكلمات للإمام زين العابدين عليه السلام، حين وصف حقّها على أبنائها بالقول: "حملتْكَ حيث لم يحمل أحد أحداً.. وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يُطعم أحد أحداً، وأنّها وَقَتك بسمعها وبصرها ويدِها ورِجلِها وشعرها وبشرها وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها وغمّها حتّى دفعتها عنك يد القدرة وأخرجتك إلى الأرض. فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك وتظمأ، وتظلّك وتضحى، وتنعّمك ببؤسها، وتلذذك بالنّوم بأرقها، وكان بطنها لك وعاء، وحجرها لك حواء، وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء. تباشر حرّ الدّنيا وبردها لك ودونك، فتشكّرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه، إلّا بعون الله وتوفيقه"!!(1).


(1) شرح رسالة الحقوق، الإمام زين العابدين عليه السلام، ص545.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع