نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

اعرف عدوك‏: الماسونية تحت المجهر (1 من 3)


أديب كريم‏


على الرغم من إتساع دائرة التواصل المعرفي والمعلوماتي عالمياً وفضل ما قدمته تكنولوجيات العولمة الحديثة من أدوات ووسائل للاتصال والبحث والتقصي، وبرغم ما تحقق في مجرى تقليص مساحة العالم تواصلاً وانفتاحاً، وجسر الهوات الفاصلة بين شعوبه وأقوامه، بحيث بات من اليسير بمكان ومن خلال كبسة زر أو جواز مرور الكتروني أن يتعرف الإنسان على أخص خصوصيات أخيه الإنسان من تقاليد وعادات ومعتقدات، نقول على الرغم من هذا التحول الانعطافي في مسيرة البشرية، بقيت بعض الجماعات في أكثر من كيان تدب في الخفاء، وتتلطى في الظل، ولا تظهر إلا بغلاف سميك من العناوين والشعارات البراقة الزائفة لإخفاء حقيقة ماهيتها ومقاصدها.

وإنه لأمر مرجح أن هذا المنحى الحركي السري منذ فجر التاريخ وحتى اللحظة الراهنة مرده على الغالب إلى عدوانية مبطنة مرتكزة على رؤية تمييزية عنصرية لا تكتسب قدرتها على الحضور والاستمرار إلا بمقدار ما تكون ممعنة في تفتيت وتمزيق مناخ الوحدة والانسجام. ولا نغلو إذا قلنا أن هذه الحركات بما هي عليه من تعصب وشوفينية مستترة قد أصابت العالم بالكثير من الشرور والانقسامات الدموية، وإنها لتنذر بما هو أعظم خصوصاً إذا استمر تغييب ما من شأنه الحد من نفوذها وامتدادها. وتمشياً مع ما تقدم، نجد أنه من اللازم العمل على تسليط الضوء على هذه الظاهرة ووضعها تحت المجهر والرصد الدائمين ليتسنى تعريتها من قشورها وأغلفتها كخطوة أولى لا بد منها لتفعيل آليات التصدي لها. ومن هنا كان اختيارنا لهذا العنوان الماسونية تحت المجهر بهدف الإسهام المتواضع في تكثيف وتوسيع دائرة الضوء على حركة عُدت بشهادة كل الباحثين وبالاستناد إلى العديد من الوقائع من أخطر وأعرق الحركات السرية على الإطلاق، وأكثرها نفوذاً، وأوسعها انتشاراً، والأهم من ذلك كله، من أمضى الأسلحة التي تسلح بها المشروع اليهودي طيلة عشرات القرون.

قبل الولوج في صلب الموضوع يجدر التوقف بداية عند تعريف أصل كلمة الماسونية لغوياً. الماسونية لغة: الماسونية مفردة لغوية مشتقة من الكلمة الفرنسية (Macon) ومعناها البنَّاء، والماسونيون تقابلها في الفرنسية (Marconneries) أي البناؤون الأحرار. وفي الانكليزية يُقال (Free Macon) أي البناء الحر. وتسمية البناؤون الأحرار ترمز إلى الذين بنوا هيكل سليمان عليه السلام. والبعد الاعتباري التقليدي للتسمية يكمن، من وجهة نظر الماسونيين، في وجوب محاكاة البنائين الأوائل في بناء عالم أفضل وأمثل.

نشأة الماسونية: كانت في البداية "القوة الخفية" وهذا يعود إلى الثلث الثاني من القرن الأول الميلادي، وبالتحديد في العام 43ب.م. وفكرة تأسيسها وليدة عقل اليهودي "حيرام أبيود" الذي كان يشغل منصب مستشار الملك الروماني اليهودي هيرودوس أغريبا الثاني. والغاية من تأسيسها التصدي لحملات التبشير النصرانية بشتى الوسائل. والثابت تاريخياً أن السلف والخلف من آل هيرودوس لم يدخروا جهداً في التنكيل برموز الدعوة النصرانية من مثل: قتل القديس يعقوب وسجن الداعي بطرس وقطع رأس يوحنا المعمدان بالإضافة إلى ذبح أطفال بيت لحم.

كيف أبصرت فكرة التأسيس النور وكيف تبلورت عملياً حتى أصبحت على شكلها الحالي؟
لم يكد يمضي أربعة عقود ويزيد على انتشار الدعوة النصرانية حتى استنفر اليهود أساليبهم الماكرة للإجهاز على مفاهيم الرسالة الجديدة في مهدها. ولهذه الغاية حضر "حيرام أبيود" بين يدي الملك هيرودوس ليخطو بذلك الخطوة الأولى في مشروع تأسيس "القوة الخفية". وعن هذه النقطة يقول حيرام: "لما رأيت أن رجال الدجال يسوع وأتباعهم يكثرون ويجتهدون بتضليل الشعب اليهودي بتعاليمهم، مثلت أمام مولاي هيرودوس وقلت له: مولاي الملك: لقد تأكد لجلالتكم وللملأ أن ذلك الدجال يسوع استمال بأعماله وتعاليمه المضلة قلوب كثير من الشعب اليهودي شعبكم، وعلى ما يظهر أن أتباعه ينمون ويزدادون يوماً بعد يوم. فلما رأيت أن لا أمل بقوة تدفع تلك القوة التي لا شك خفية إلا بإنشاء قوة خفية مثلها، فلذلك أرى من الصواب إذا حسن في عين جلالة مولاي وارتأى رأي عبده: إنشاء جمعية ذات قوة أعظم منها تضم القوة اليهودية المهددة من تلك القوة الخفية، ولا يكون عالماً بمنشأها ووجودها ومبادئها وأعمالها إلا من كان داخلاً فيها، ولن ندع أحداً يعرف أننا أسسناها إلا المؤسسين الذين تختارهم جلالتكم...".

وجد الملك في فكرة أبيود فرصة في محاربة اتباع الدعوة اليسوعية، فتلقفها على الفور وبادر إلى استدعاء أبرز مستشاريه بهدف تفعيلها على الفور في إطار تنظيمي فاعل، ولقد ضم الاجتماع الأول بالإضافة إلى الملك، وأبيود كلاً من: مؤآب لافي هوهانا أنتيبا جاكوب أبدون سلومون أبيرون أدونيزام. وتلا هذا الاجتماع سلسلة لقاءات دورية سرية تمخض عنها وضع الخطوط العامة والتفصيلية للهيكلية التنظيمية، وتخلل هذا الأمر تدريجياً تسييج نشاطهم الداخلي والخارجي بسياج محكم من الطقوس والرموز السرية. وأعقب ذلك انتشار لأعضاء الحركة الجديدة وعمل دعوي على خطين متوازيين: الأول وتمثل في بناء هياكل (محافل حسب التسمية الحديثة) واجتذاب أعضاء جدد إليها من عامة الناس تحت شعارات وعناوين مغايرة تماماً لحقيقة الأمر، والثاني تجلى في نشاط سري تركز على تعقب المبشرين النصرانيين، إما بالتكذيب أو التحريف وأحياناً بالنفي والقتل. ويكتب التاريخ أن حيرام أبيود كان من أبرز الدعاة، وقد وجد مقتولاً تحت شجرة في مدينة صيدون (صيدا) خلال قيامه في مهمة تبشيرية. وتقديراً لفضله في تأسيس القوة الخفية والعمل على تعزيز مكانتها بالغ تلامذته في تكريمه بأن أطلقوا على أنفسهم لفترة زمنية غير طويلة "أبناء الأرملة" وذلك لأن حيرام كان يتيم الأم وغالباً ما عُرف بين أصحابه ب"ابن الأرملة".

سيرورتها وصيرورتها: بقيت حركة حيرام أبيود تعرف باسم القوة الخفية حتى بداية القرن الثامن عشر. وتُعد هذه المرحلة التاريخية الفاصلة بين انطلاقة الحركة ومطلع القرن المذكور من أكثر المراحل غموضاً في تاريخها. ولم نعثر للأسف في مطاوي ما كُتب عن تاريخ الماسونية على ما يمكن أن يُستدل من خلاله على ما آلت إليه أمور الحركة طيلة هذه الفترة. غير أننا نفترض على ضوء ما حصل لاحقاً، ولأسباب نجهلها، أن الحركة أو القوة الخفية قد شُلت حركتها من الناحية العملية، فيما تحولت تعاليمها وإنجازاتها إلى إرث أسطوري توارثته نخبة من اليهود تعود في جذورها إلى سلالة المؤسسين الأوائل. وهذا ليس بالأمر المستغرب إذا عرفنا طبيعة الحركات الباطنية التي تميل إلى الجمود والانطواء والتكتم على كل ما يتصل بتاريخ رموزها. وتجاوزاً لتلك المرحلة الغامضة بكل ما حملت من تطورات وأحداث، نتوقف عند بداية القرن الثامن عشر حيث شهدت محاولة تجديد الإرث الخفي، وإنطلاقة الحركة الماسونية وشيوعها.

ففي 25 آب من العام 1716 اجتمع كلٌ من "جوزف لافي" أحد ورثة تاريخ أجداده من الجد الأكبر "موآب لافي" وابنه إبراهيم ويهودي آخر يدعى "إبراهيم أبيود" من سلالة المؤسس الأول "حيرام أبيود" بالإضافة إلى عضوين آخرين. اجتمع الخمسة في لندن بعد اطلاعهم على النسخة الأصلية لتعاليم القوة الخفية ورموزها وإشاراتها السرية. وجرى التأكيد على ضرورة إحياء هذا الإرث مع تعديلات سطحية. وكانت أوروبا في تلك الفترة تعيش أخصب المراحل في ورش الإعمار والبناء، وكان البناؤون ناشطين ومؤثرين في مجريات الحياة من خلال العمل النقابي، فاستغل المجتمعون هذا المناخ للتمويه على انطلاقتهم السرية وأطلقوا على حركتهم اسم البناؤون الأحرار (الماسونية)، وعلى هيكلهم اسم المحفل بقصد التعتيم والتضليل، وبعد حوالي عشرة أشهر وتحديداً في 24 حزيران 1717 عُقد أول لقاء بين الأعضاء الخمسة على أساس المعطيات الجديدة وكان مكانه في لندن أيضاً، واعتبر هذا اليوم التاريخي بمثابة العيد السنوي للماسونية أو يطلق على هذا اليوم حالياً وللتمويه (عيد مار يوحنا)، وأعلن حينها تأسيس أول محفل عالمي ماسوني رسمي بمحفل إنكلترا العظيم. ومما ساعد لاحقاً على انتشار الحركة الماسونية كما سيتبين معنا الظروف المفصلية التي كانت تعيشها أوروبا والتحولات الكبرى التي عصفت بها على كل المستويات.

فبعد ظهور عصر النهضة وما تولد عنه من أفكار تدعو إلى تقديس العقل، والإيمان بالقانون الطبيعي، ونبذ كل ما يتعلق بفكرة الغيب والدين، وفي ظل إنكماش سلطة الكنيسة وتراجعها أمام زحف الأفكار العلمانية في صورتها الجنينية، ازدهرت الحركة الماسونية بأفكارها الطوباوية الجوفاء الحرية والمساواة والاخاء مستغلة بذلك حاجة الأوروبي الغريق إلى خشبة الخلاص الروحي والمعنوي. وقد استطاع الماسونيون بما كانوا يملكون من قوة التأثير المادي والاعلامي استقطاب أبرز الرموز الأوروبية في تلك الفترة بالإضافة إلى تركيزهم على الطبقة المتوسطة في المجتمع الأوروبي والتي عادة ما تكون فاعلة وطامحة للتغيير، ومن هنا نجد سرعة انتشار المحافل الماسونية في أرجاء أوروبا، حيث أنه لم يمض أكثر من ثماني سنوات على تأسيس المحفل الأول في بريطانيا حتى تلاه الثاني في فرنسا عام 1725 والثالث والرابع في كل من إيطاليا وألمانيا عام 1733... وعلى مستوى الرموز الأوروبية السياسية فقد انضم إلى الماسونية كلٌ من ملكي بروسيا فريدريك الثاني والثالث، وملوك شبه جزيرة اسكندنافية، وملك النمسا جوزف الثاني، ونابليون وأفراد أسرته بالإضافة إلى أعضاء الأسرة المالكة الإنجليزية. ويُقال أن أكثر من نصف أعضاء الجمعية العمومية في فرنسا عشية الثورة الفرنسية كانوا أعضاء في الماسونية. ومن جهة ثانية استطاعت الماسونية، من خلال قدرة اليهود التعبوية، التأثير في أعضاء الطبقة الفكرية والعلمية من أمثال فولتير ومونتسكيو وجوته وفخته وهردر وموتسارت بالإضافة إلى الانسيكلو بيديين (الموسوعيين).

هذا باقتضاب عرض لما حققته الماسونية خلال قرن من انطلاقتها الرسمية ولا حاجة للتذكير بمغزى هذا الأمر لجهة قوة هذه الحركة ونفوذها الواسع الذي استمر تصاعدياً حتى وقتنا الراهن، وأيضاً لجهة تماسك وتشابك تنظيمها السري الداخلي.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع