صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

الشباب: الثقة والتفهُّم


د. حسين يوسف(*)


غنيّ عن البيان ما لعلاقة الأهل بأبنائهم الشباب من أهميّة وحساسيّة يؤكّدها قِدم انشغال المربّين بها واستمرارهم على ذلك، ويثبّتها عدم اختصاصها بمجتمع من المجتمعات أو حضارة من الحضارات، حتّى تحوّلت لدى الكثيرين إلى معضلةٍ إنسانيّة، كأداة يحيط بها الكثير من الأفكار السلبيّة، والتصوّرات المسبقة التي تعقّد بسيط هذه العلاقة، وتضخّم يسير أزماتها.

* شكوى بين جيلين
فأنت لا تكاد تحضر مجلسَ أهلٍ يتسامرون إلّا وجدت حديث سمرهم بثّ شكوى، وسباقاً في استحضار مشاكلهم في التعامل مع أبنائهم الشباب. سباقٌ غالباً ما ينتهي بجوقةٍ يتبارز فيها الحاضرون في حكاية ما تسعفهم به الذاكرة من قصص هذا الجيل الخارج عن كلّ مألوف، والمنفلت من كلّ عقال...

ولئن أُتيحت لك فرصة التسلّل والإصغاء إلى شلّة شباب يتناجون ببثّ أفكارهم، وإفشاء خُططهم ومشاريعهم، لوجدتهم يتسلّون برشق جيل الأهل بالجمود والانغلاق، ويسخرون من أساليبهم البطيئة والمربكة في التعامل مع الحديث من التقنيّات، ويتندّرون على محاولاتهم الساذجة للتجسّس على خصوصيّاتهم، وأهمّها هواتفهم وحواسيبهم! ولاستوحَيت من مجمل مداولاتهم يأساً من تفهّم أهلهم لآرائهم وأفكارهم، ولاستشفّيت من مقالاتهم قناعة مركّبة، بأنّ أهلهم لا زالوا أسرى أفكارٍ اندثرت، وزمانٍ مضى.

وأمّا إن كشَفَت لك البيوت عن أسرارها، لوجدت أنّ سمر الأهل سرعان ما ينقلب، مع أبنائهم الشباب، صراخاً هائجاً وغضباً ثائراً لا تدرك له سياقاً ولا هدفاً، ولا تعرف له بدايةً ولا نهايةً، وإن لم يسعفهم صوتهم الهادر استعانوا، في جولة غضبهم العبثي، بأطراف أجسادهم أو بما تيسّر ممّا تطاله أيديهم... ولوجدت من ناحية أخرى نجوى الأبناء تنقلب في أحسن الأحوال صمتاً متبلّداً وانسحاباً يائساً...

* علاقة الأهل والأبناء: حديثٌ ذو شجون
والحقيقة أنّني لست في هذه العجالة في صدد التوسّع في طرح شؤون وشجون علاقة الأهل بأبنائهم الشباب، فهذا يستلزم تناول العديد من الجوانب بعضها يتّصل بحقائق وسُنن اجتماعيّة ثابتة كالعلاقة بين الأجيال المتعاقبة، وبعضها يتّصل بثوابت القيم والأخلاق ومتبدّلها بحسب الأعراف والأزمان "لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمانٍ غير زمانكم"(1)، وبعضها يتّصل بخصائص هذا العصر وسرعة تحوّلاته، وأخبار الحرب الضروس التي يشنّها الاستكبار بأساليبه الناعمة على هويّتنا الحضاريّة الإسلاميّة، ويركّز فيها بطبيعة الحال على أبنائنا وبناتنا من جيل الشباب...

وإنّما قمت باختيار هذا المدخل لمعالجة هذه العلاقة لأنّني أردت أن أتوجّه إلى طرفي العلاقة على حدٍّ سواء، وبالتالي اخترت أن أتناول عنصرَين أرى أنّهما من العناصر الأساسيّة، والثابتة والمطلوبة من كلٍّ من الأهل والأبناء الشباب من زاويتهما الخاصّة، على حدٍّ سواء، وهذان العنصران هما: الثقة والتفهّم.

* تقديم النماذج السامية
الحقيقة أنّ الأصل في علاقة الأهل بالأبناء هو النموذج الراقي، الذي تنساب فيه العلاقات في أبهى صورها الإنسانيّة على أرضيّة القيم الفطريّة والأخلاق الإسلاميّة، التي قدّمت مثالها النماذج السامية، بل والكاملة، التي يزخر بها تاريخنا الإسلاميّ، في سيرة أهل بيت العصمة عليهم السلام مع أهلهم وأبنائهم، والتي خلّدت محطّة عاشوراء أجمل صورها، والتي نرى تردّداتها المشرقة اليوم في تلك القافلة المباركة من عوائل الشهداء وشهدائهم الأبناء، وجلّهم ممّن هم في مقتبل الشباب. والواقع أنّ نفس وجودهم هو دليل لنا وحجّة علينا.

* مبرّرات التوتّر
لا ننفي أنّ بعض ما يشوب هذه العلاقة من توتّر وسوء فهم يصل أحياناً إلى حدّ التناقض، له سياق متين يبرر مشهده النهائي بالنسبة إلى طرفي العلاقة، ولكنّ بعضه أيضاً ناتج عن افتقاد أحد الطرفين أو كلاهما إلى حُسن التواصل والتجاوز والتسامح، وفنون التوجيه من الأهل، المقنّن بميزان الحكمة، والتفهّم للوضعيّة التي يمرّ بها الشاب.

وهو ناتج أيضاً عن الوقوع في فخّ الإسقاط التلقائيّ للمأثور، المستبطن من الصفات والحكايات والأزمات الذي قد يقع فيه الآباء والأبناء على حدّ سواء في يوميّات تعاملهم، كانعكاس لأفكار سلبيّة مسبقة يحملونها تجاه بعضهم بعضاً. يساعد على ذلك تلك الاتّجاهات التفكيكيّة التي تزخر بها أدبيّات علم النفس في تعاملها مع الحاجات الفطريّة، الطبيعيّة والتربويّة لفئة الشباب، والتي ترجمتها في صفات تحمل بطبيعتها المعاني السلبيّة، يظلّلها عنوان المراهقة المستبطن لمعاني الانفلات والتمرّد، وهو ما يؤدّي إلى انتزاع العوامل المحورية للمحافظة على سلامة العلاقة، وأهمّها كما أسلفنا عاملا الثقة والتفهّم، مضافاً إلى عوامل التسامح، والإيثار، والتضحية.

* الثقة الرصيد الأهمّ
بطبيعة الحال في حالة الأهل والأبناء يتحمّل الأهل مسؤوليّةً مضاعفة؛ تكمن الأولى في بناء رصيد الثقة في وعي وقلوب أبنائهم منذ نعومة أظفارهم، ومسؤوليّة صيانة هذا الرصيد والمحافظة عليه، بحيث تكون مؤونة هذا الرصيد كافية عند بلوغ مسار التربية مرحلة الشباب، والثانية تكمن في تعليم أطفالهم فنّ بناء ثقة الأهل بهم، حتّى إذا وصلوا إلى بداية مرحلة الشباب وعوا أهمّيّة ثقة أهلهم بهم وحرصوا على المحافظة على هذا الرصيد. ومع يقيننا أنّ الثقة المتبادلة هي طبع إنسانيّ أصيل فطر عليه الآباء والأبناء على السواء، إلّا أنّ كثرة ما أثّر سلباً على هذا الطبع، تدفعنا إلى الإشارة إلى ما يمكن أن يساعد على تركيز هذه الثقة وتبنّيها:

أ. من الأهل: فيض مودّة ومصداقيّة

فبناء الثقة من الأهل، يبدأ بفيض المودّة، والمحبّة والحنان، ويتقوّى بالتضحية والإيثار، ويتعزّز بالتسامح، وبانضباط ردود الأفعال. وينمو مع كلّ ظهور لرجحان التجربة وتفوّق المعرفة ومصداقيّة الخبرة، تترجم في معالجة ما أشكل على ذهن المتربّي أو ما التبس في وعيه ووجدانه...

أمّا العامل الأهمّ في تثبيت رصيد الثقة لدى المتربّي فيكمن في اقتران أعمال المربّي وأدائه بما يدعو إليه المتربّي من المرغوب فيه من الأعمال، والمنشود من الأخلاق والصفات.

ب. من الأبناء: طاعة وبرّ

وأمّا الثقة التي يبنيها الأبناء لدى أهلهم، فأساسها الطاعة والبرّ، ويقوّيها صدق الالتزام بالوعد، ويعزّزها خفض الجناح في مناقشة الشؤون والشجون، ويثبّتها ويدعمها المكاشفة والمصارحة، حتّى مع كبير الخطأ وجسيم الزلل...

وليس المهمّ فقط كيف نؤسّس رصيد الثقة المتبادلة وكيف نحافظ عليه وإنّما أيضاً متى وكيف نصرف من هذا الرصيد في معالجة وتصويب وترشيد الخيارات، على ضوء أثرها في التوجّه نحو المسارين اللذيْن فتحهما الله أمام الإنسان، إمّا في التسامي والارتقاء نحو الكمال المنشود وإمّا في التسافل نحو الحضيض ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: 3).

* التفهّم: تحديد الموقف المناسب
وأمّا التفهّم فهو يقوم على إدراك الوضعيّة والسياق. وبالتالي الانطلاق من معطيات الواقع لفهمه وليس من التصوّرات والإسقاطات، ليأتي لاحقاً على هذا الفهم التحليل المبنيّ على الرؤية المتبنّاة، ويقوم على النظام المعياريّ للقيم المعتمدة، ما يساعد على تحديد الموقف المناسب لهذه الوضعيّة.

وتفهّم الشباب يحتاج إلى إدراك موقعيّة الأهل وحقوقهم، وهو ما يساعدهم على فيض البرّ وخفض جناح الذلّ من الرحمة.

1. تفهّم الشباب: تقبّل وتقدير

وتفهّم الشباب لموقعيّة الأهل هو الذي يدفعهم لتقبّل إرشاداتهم وتوجيهاتهم في أيّ قالب أتت، وهو الذي يُبعدهم عن المقارنات العبثيّة بغيرهم ممّن كانت بالغت الدنيا بفتح ذراعيها لهم، أو وفّقوا لما لم يوفّق له أهلهم.
وتفهّم الشباب لأهلهم، يجعلهم يدركون حاجتهم إلى توقير رأيهم واحترام تجربتهم وتقدير تضحياتهم.

2. تفهّم الأهل: إدراك الحقوق

وتفهّم الأهل لأبنائهم الشباب يساعد في أمور عدّة:

أ. يقوم على إدراك حقوقهم التربويّة، وعلى بذل الجهد لمعرفة خصائصهم العمريّة، والأصول المرعيّة في تربيتهم، وبالتالي حاجاتهم، وقلّة تجاربهم. فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة"(2). ورقّة أفئدتهم، حيث قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "أوصيكم بالشبّان خيراً فإنّهم أرقّ أفئدة"(3)، وأخيراً ضرورة التزام مصاحبتهم(4).

ب. يعين الأهل على تقبّل فكرة انتقال المأمورية الأساسية في التربية منهم إلى أبنائهم، الذين يدخلون في مرحلة التكليف ومرحلة التربية الذاتية الحقيقية، بالتالي يتفهّمون حاجتهم إلى التدرّج في مسار الاستقلال الفكريّ، والروحيّ، والعاطفيّ وصولاً إلى مرحلة الاستقلال العمليّ والاقتصاديّ، والاجتماعيّ، لينظروا بعمق إلى ميولهم واتجاهاتهم، فلا يسقطوا عليهم طموحاتهم المطوية وأحلامهم غير المنجزة.

ج. يساعده الأهل على الإنصاف في تحمّل المسؤولية عن الإخفاقات. فالتربية تكامل في مسار طويل؛ فإن كان السلوك غير مرغوب، نظر الأهل إلى مسؤوليّتهم عن إلقاء بذرته الأولى في قلب ابنهم حدثاً. عن الإمام عليّ عليه السلام مخاطبًا ولده: "وإنّما قلب الحدَث كالأرض الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبُّك، لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر، ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد كفيت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة"(5).

وتفهّم الأهل لأبنائهم الشباب يدفعهم إلى سعي جاد لفهم تبدّلات الزمان والأيّام، وآثار المحيط والظروف.

في النهاية، التفهّم هو الذي يُعين طرفي العلاقة على التسامح والتغاضي عن عابر الأخطاء ونادر الزلّات...


(*) مدير عام المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم.
1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج20، ص267.
2- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج4 ص3673.
3- (م.ن).
4- عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدَّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح وإلّا فإنّه ممّن لا خير فيه" (من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3، ص492).
5- نهج البلاغة، خطب أمير المؤمنين عليه السلام، ج3، ص40.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع