اخرج إلى الضوء | عندما يكون القائد والداً للمجاهدين مهارات | المساندة النفـسيّة في الأزمات والحروب الملف | كيف نواجه إشاعات الحرب؟ الملف | بصبركنّ... ننتصر الملف | دعاء أهل الثغور: مدد المجاهدين الملف | الشهداء المستبشرون معالم المجتمع الصالح في نهج البلاغة الملف | قيم المقاومة آخر الكلام | تحت الركام.. الافتتاحية | الصبر حليف النصر

من حُسن اتّباعهم عليهم السلام: صــلاحُ الإدارة (عهد الأشتر نموذجاً)


د. علي شعيب (*)


لا ينبغي لمن يدّعي الولاء لأهل البيت عليهم السلام أن يمارس الإدارة على نحو التجربة والخطأ، أو التقليد لما شهده من زعيم عائلته أو منطقته أو أمير دولته أو قائد جيشها، أو غيرها من النماذج التي تزخر بها البيئة الثقافيّة والاجتماعيّة، والتي غالباً ما تكون في سلوكاتها الإداريّة بعيدة عن الصراط المستقيم؛ بل يجب عليه أن يستضيء أوّلاً بنور أهل البيت عليهم السلام، وثانياً بنور العلم الإداريّ الذي أنتجته الخبرات والأبحاث المتراكمة على مدى قرنين من الزمن.

والسؤال الذي سنجيب عنه في هذه المقالة هو: كيف يكون سلوك المدير، في إطار ممارسته للإدارة ووظائفها في منظّمته، متوافقاً مع سلوك أهل البيت عليهم السلام في المجال الإداريّ؟

سنعتمد في الإجابة عن هذا السؤال، على نصوص من نهج البلاغة، وتحديداً ما ورد في عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، مع التركيز على أبرز المظاهر السلوكيّة التي ينبغي للمدير أن يتّبعها في المجال الإداريّ.

وردت في كلامه عليه السلام مجموعة أركان أساسيّة تشكّل موازينَ للسلوك الإداريّ الرشيد، منها:

1- الالتزام بالعدالة والإنصاف
إنّ المدير الإسلاميّ الملتزم بنهج أهل البيت عليهم السلام حريص على تطبيق العدالة في منظّمته، وعلى عدم ظلم العاملين فيها؛ لذلك، فهو يجعل من نفسه ميزاناً فيما بينه وبين غيره، فلا يُقدم على أيّ قول أو فعل تُجاه الآخر لا يرتضيه لنفسه. يقول عليه السلام في وصيّته لابنه الإمام الحسن عليه السلام:

"يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ"(1).

والمدير أيضاً هو الذي لا يجعل من نفسه وخاصّة أهله والمقرّبين منه دوائر لا تُطبّق فيها العدالة ولا تُستردّ منها حقوق الناس؛ لأنّ في ذلك ظلماً يستلزم سخط الله سبحانه: "أَنْصِفِ اللَّهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً‏ مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، ومنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ،‏ وَكَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ‏ أَوْ يَتُوب"(2).

2- السعي إلى العمل الصالح
يتيح الموقع الإداريّ للمدير الإسلاميّ ممارسة مجموعة سلطات، ولكن ينبغي له أن يستخدمها وفق سيرة أهل البيت عليهم السلام من أجل العمل الصالح، الذي يتربّع على سلّم أولويّاته خدمة الناس. كما ينبغي أن يستغلّ موقعه الإداريّ للاستزادة منه للآخرة، وليس باعتباره موقع تشريف واستئثار بالقرارات وإطلاق يد هوى النفس ليوجّهها فيما يخدم مصالحه الشخصيّة ويُرضي مطامعه الذاتيّة: "وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ وَشُحّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ؛ فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَت"(3).

3- محبّة العاملين والمرؤوسين
يجب أن ينطلق المدير الإسلاميّ من روحيّة تملؤها الرحمة والرأفة بالعاملين، والإحسان إليهم، والتفهّم لظروفهم ومشاكلهم الاجتماعيّة والعمليّة، والعمل على حلّها، ومساندتهم في طموحاتهم، والعمل على تلبية حاجاتهم، والوقوف إلى جانبهم ودعمهم لمواجهة تحدّياتهم، والعفو عنهم إذا أخطؤوا، وعدم الإسراع إلى العقاب لتقويم انحرافاتهم إلّا كسبيل أخير بعد استنفاد الأساليب الأخرى الليّنة:

"وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ‏، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، وَيُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأَ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ... وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ، وَلَا تَبْجَحَنَ‏ بِعُقُوبَةٍ، وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَة"(4).

4- اعتماد الأسلوب التشاوريّ التشاركيّ
المدير الإسلاميّ هو من لا يستبدّ برأيه ويحاول فرضه على العاملين، ولا يتشبّث بأفكاره وتحليلاته للأمور، فيرفض أيّ فكرة جديدة أو إضافة مفيدة؛ لأنّ ذلك يحرمه من الاستفادة من عقول الآخرين، ويجعله قريباً من المخاطرة بموارد المنظّمة والمجازفة بها، ويُفسد نفسه بإدخال الكِبَر إليها؛ فيضعف تديّنه وينقص إيمانه جرّاء ذلك، ويسأم العاملون من طريقته لعدم شعورهم بفعاليّتهم، فتكثر الانتقادات والاعتراضات، ويضطرب المناخ التنظيميّ، الذي يتحوّل إلى جوّ استبداديّ قهريّ ينفّذ فيه العاملون الأوامر، ولا يتدخّلون في صياغة القرارات، ممّا يؤدّي إلى أن يهجر أصحاب الكفاءات والمهارات العالية منهم المنظّمة لعدم تقديرهم واحترام آرائهم، ولأن يمقت ما بقي من العاملين المدير ويتمنّوا تغييره:

"ولا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ‏ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَر"(5).

لذلك، ولكي يتّخذ المدير قرارات رشيدة تساعده على تحقيق أهداف المنظّمة، عليه أن يُكثر من إنشاء اللجان التشاوريّة المكوّنة من أصحاب العلم والخبرة والحكمة في الميادين المختلفة ابتغاءً لصلاح منظّمته وبقائها واستمراريّتها:

"وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَك"(6)‏.

5- بناء الثقة مع العاملين
إنّ كلّ ما تقدّم من أساليب عمل، يساهم في تمتين حبل الثقة في العلاقة مع المرؤوسين، الذي إذا ما أُعدّ جيّداً وأصبح متيناً -بالاستناد إلى حُسن صنيعة المدير مع العاملين، وعدم تكليفهم بما لا يطيقون ممّا لم تنصّ عليه واجباتهم ومهامهم، وعدم إكراههم على فعله- فإنّه يقي المدير والمنظّمة الأخطار الناشئة من تجاهل العاملين للمعلومات الحسّاسة التي تنذر بوقوع الأخطاء، فتتمّ الوقاية منها أو معالجتها قبل استفحالها. وكذلك يسهّل هذا الحبل عمليّة تسييل القرارات من المدير إلى العاملين والتواصل معهم، ويجعلهم حريصين على نجاحه، متمنّين له البقاء بصفته رئيساً للمنظّمة، ومستعدّين للبذل وللعطاء في وقت الأزمات بما يتجاوز حدود واجباتهم ومهامهم:

"وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَتَخْفِيفِهِ الْمَؤُنَاتِ عَلَيْهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ‏، فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَه"(7).

تلك هي إذاً أركان أساسيّة من أركان السلوك الإداريّ القائم على اعتبارات إسلاميّة وفق منهج أهل البيت عليهم السلام، والتي على كلّ مدير إسلاميّ انتهاجها والعمل بها.


(*) أستاذ مساعد في إدارة الموارد البشريّة- الجامعة اللبنانيّة- بيروت- لبنان.

(1) نهج البلاغة، الشريف الرضيّ، ص397.
(2) (م. ن)، ص 427.
(3) (م. ن)، ص427.
(4) (م. ن)، ص427.
(5) (م. ن)، ص 428.
(6) (م. ن)، ص 431.
(7) (م. ن)، ص431.

أضيف في: | عدد المشاهدات: