صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

شهيد الدفاع عن المقدّسات السيّد محمّد إبراهيم إبراهيم

نسرين إدريس قازان

شهيد الدفاع عن المقدّسات السيّد محمّد إبراهيم إبراهيم (كرّار)
اسم الأمّ: سهام رعد.
محلّ الولادة وتاريخها: النبيّ أيلا 17/8/1994م.
رقم القيد: 33.
الوضع الاجتماعيّ: خاطب.
مكان الاستشهاد وتاريخه: القلمون 20/5/2015م.



عن غير قصدٍ، راح يُزاحم الناس في المطار، حاملاً بيده جواز سفره وفيه تأشيرةُ شوق، كأنّه لو كان أوّل الراكبين في الطائرة، سيكون أوّل الواصلين إلى هناك.. لا يعرفُ معنى الاقتراب خطوتين إلّا العاشق.. وهكذا كان السيّد محمّد.
يُقال إنّ من ينسى شيئاً في كربلاء يعود إليها، وهذا ما حصل معه، لقد ترك نفسه عند الإمام الحسين عليه السلام، وعاد بجسدٍ يُشبه جواز سفرٍ يحتاجُ فقط إلى تأشيرة؛ تأشيرة لم تتأخّر لتصله.


•ذات أيّار
كان حينها يتحضّر لامتحاناته الجامعيّة، حينما تناهى إلى سمعه التحضير لمعركة القلمون ذات أيّار، فسارع إلى تسجيل اسمه للالتحاق بالمجاهدين، ولم يمنح نفسه فرصة التفكير في ما له وما عليه في الامتحانات، التحضير للزفاف، الدرس في معهد المعارف الحكميّة، التدريب، والكثير من الأعمال التي كانت مُدرجةً ضمن جدولٍ واضح، فالأولويّة في حياته واضحة، وما يريدُه صار قاب قوسين أو أدنى من قلبه.

وذات أيّار، استيقظ حلمُ محمّد على انتصار عظيم. كان طفلاً في السادسة من عمره يركض بالقرب من بوّابة فاطمة، يحتفلُ مع الناس بالتحرير عام 2000م، يسمع من والده قصصاً وحكايا، عن تلّة سجد، و"عليّ الطاهر"، وبطولات جعلت العدوّ الصهيونيّ يترك خلفه العتاد ويولّي هارباً، كما ترك دبّاباته ليلهو بها الصغار، فتحمّس محمّد من حديث والده، وهو يرى بعينيه الصغيرَتين جنوداً خائفين في الجهة المقابلة، فحمل كومةً من الحجارة وصار يرميهم بها. نظرَ أخوه الكبير إليه قائلاً: "الحمد لله يلّي انسحبت إسرائيل، وإلّا كان استشهد محمّد!".

•"هرب الضبع!"
كان أخوه محقّاً، أوَليس محمّد في تلك السنة -أثناء رحلة صيد مع والده الذي جلس في ظلّ شجرة ليأخذ كبوة- هو الذي أخذ بندقيّة والده عندما لمح ضبعاً بالقرب منهما، وصوّب ناحيته مطلقاً عياراً ناريّاً ألحقه بآخر، ففتح والده عينيه فزعاً، فضحك محمّد وقال: "هرب الضبع"! بلى، إنّه هو الذي لم يمنح عمره فرصة الاكتفاء بمراحله؛ لأنّه قفز بالسنوات وكأنّه يسابقها، ليس لأنّه عجولٌ، بل لأنّه عاشقٌ فحسب!

•نضج قبل الأوان
عندما قدّم أوراقه للالتحاق بدورة المقاتل، كان ينقصه إخراج القيد، ليس لأيّ سبب إلّا لأنّه لم يكن قد بلغ السنّ المسموح بها، ولكنّه لم يتراجع، وطلب إلى المسؤول الاتّصال بوالده ليتأكّد منه على موافقته، فكان جواب الأب: "لا تكسر بخاطر أبو علي، ودعه يذهب"، ولو لم يكن الأب يعرف ولده، لما سلَّم بهذا الأمر بتلك البساطة.

فالطفل الذي يجول بخاطره ليس ذلك الذي يلعبُ ويشاغب، بل هو طفل في الثالثة من عمره، أمسك بيد أخيه وخرجا معاً من البيت ذات يوم مثلج عاصف، ليزورا قريبتهما العجوز خوفاً من أن تحتاج إلى شيء ما ولا تجد من يؤمّنه لها. يومها بحث الوالدان عنهما مع أهل الحيّ في القرية، والخوف من أن يكونا قد وقعا في البئر ألهب النار في القلوب، وفي غمرة البحثِ، وقف الأب على سطح المنزل وبخار تنفّسه رسم أمامه نقطتين سوداوَين تتحرّكان وسط الأبيض الناصع، فوجد ولديه يتراشقان بكرات الثلج ويضحكان.

•حياة مثاليّة
كان جوابهما وسادة اطمئنان غفت عليها الأمّ بعد دموعٍ ذرفتها خوفاً. اطمئنان بأنْ لا شيء عبثيّ يجول في عقل صغيرها الذي كبر وحركته تملأ البيت حياةً، فصوته لحنُ القلوب، يضخُّ بين الجدران ضجيجاً مؤنساً. درسه دندنة مع حركات رياضيّة، وضحكاته قهقهة مع إخوته وهم يتسامرون، ومع والديه شابّ رصين يحادثهما بشؤون الحياة. لقد استطاع أن يحوّل حياته إلى قالبٍ مثاليّ جعله متميّزاً في كلّ شيء، من المدرسة إلى الجامعة، إلى ساحة الجهاد.

•نموذج استقطابيّ فتميُّز
إنّ أصعب مهمّة توكل إلى الإنسان هي تربية نفسه، وهذا ما فعله محمّد. لقد جعل من أصوله الهاشميّة جذوراً لتفكيره، فكان ملتزماً واعياً، التحق بمعهدٍ لدراسة البحوث الدينيّة ليكون على بيّنة من أمره. أمّا في الجامعة، وإلى جانب دراسته، فأوكلت إليه مهمّة مندوب التعبئة التربويّة، ليلعب دوراً محوريّاً ليس في العمل فحسب، بل في تغيير جوهريّ في النظر إلى الأمور، ومن ثمّ الانطلاق إلى العمل، فكان له الأثر البالغ في قلوب الطلاب البعيدين عن التديّن قبل المتديّنين؛ لأنّه أدرك أنّ تشكيل الوعي الحقيقيّ في عقول الشباب في خضمّ التجهيل الممنهج، يبدأ من احتضان الهواجس وتفهّمها، وتقديم الدين في قالب أخلاقيّ جاذب، فكان نموذجاً استقطابيّاً نادراً.

•الوقت كالسيف
قسّم محمّد وقته بدقّته، فبعد صلاة الصبح يمارس الرياضة، ومن ثمّ يذهب إلى الجامعة، فالعمل، فالعودة إلى المنزل، ثمّ لقاء الأصدقاء، وممارسة هواياته، والجلوس مع خطيبته.

يقول أحد العلماء: إنّ انعدام البركة في الوقت أساسه الغفلة، وأكثر ما تميّز به محمّد، أنّه لم يكن من الغافلين؛ لذا تراه يعمل لدنياه كأنّه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنّه يموت غداً. وكان غد الرحيل قريباً، شعر به قلبه، فحجز لخطيبته رحلة إلى كربلاء، ففي محضر الإمام الحسين عليه السلام يخفُّ البلاء. وأنهى بعض الملفّات الموكلة إليه، وتغيّر شيء ما في لمعة عينيه.. في ضحكته.. في صمتٍ بدأ يتسلّلُ إلى ضجيجه..

•وكم من فئة قليلة غلبت
المعركة في فليطة بالقلمون قاسية وصعبة، وأعدادُ التكفيريّين من داعش تفوق أعداد المقاومين، ولكن منذ بدايات حرب سوريا، الفئة القليلة تغلب. ولم تكن هذه معركته الأولى، فهو شارك في تحرير "تلّة مندو"، ويومها عبروا نهراً شديد البرودة، وقد حمل الحاجّ علاء البوسنة بعض المجاهدين على ظهره ليعبر بهم، فتأثّر محمّد كثيراً بهذا الموقف العظيم.

•طعام الجنّة أطيب
بدأت المعركة. كان محمّد شجاعاً ومقداماً لم يتعب، ولم تخبُ للحظة الحماسة لديه، وعندما طلب إليه مسؤوله العودة، رفض ورسّخ قدميه في الأرض. طالت المعركة، وبدأت الذخيرة تنفد. استشرس التكفيريّون في القتال، فكان لا بدّ من خطّ انسحاب، وكان لا بدّ من تغطية آمنة..

وقف محمّد فادياً رفاقه بنفسه، وفتح نيرانه ناحية الأعداء، والرفاق يعبرون على صوت أزيز رصاصه بأمان. كان قبل ليلة قد قال لمسؤوله إنّ طعام الجنّة أطيب من طبخه، ولمّا فتح الجهاز ليعطي آخر إحداثيّاته، ذكّره قائلاً: "ألم أقل لك يا حاجّ إنّ طعام الجنّة أطيب؟".

وسكت رصاصه بطلقة قنصٍ أصابته في نحره. تدفّق الدم على البدلة العسكريّة التي كوتها خطيبته جيّداً بناءً على طلبه، والتي كان قد وضعها في حقيبته كبدلة احتياطيّة، فكانت بدلة "عرسه" المقرّر بعد شهرين.. لم يسمع محمّد أصوات رفاقه وهم يصرخون "كرّار".. سحبه التكفيريّون وأسروا جثمانه، وبعد تسعة أشهر عاد ليسكن في ضريحٍ بالقرب من ضريح صديقه الحميم الشهيد حسين كمال حمّود، الذي بحث كثيراً عن جثمان رفيقه.

•عرس جميل
وتزاحمت قلوب الناس صوبه، كلٌّ يريدُ أن يأخذ قطرة من رائحة العشق العابقة بجنازته. كان موكب عرسٍ جميل، ببدلة كوتها له خطيبته جيّداً.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع