عندما نتحدث عن العباءة السوداء، فإننا نقصد بذلك الزيّ
النسائي الذي يُعدُّ الأكثر ستراً للمرأة من حيث تغطيته لبدنها بطريقةٍ فضفاضة، ومن
ناحية اعتباره رمزاً لكمالها الظاهري في اقتدائها بنساء أهل البيت عليهم السلام. في
مقابل ذلك، نشهد في عصرنا الحالي رواجاً على صعيد أزياء المرأة المحجبة لما يسمَّى
"الحجاب على الموضة" الذي ترتديه بعض المحجبات للدّلالة على حضارتهنّ وحضورهنّ في
المجتمع، فيما النظرة السائدة عند بعض الناس أن ارتداء العباءة قد يمنع المرأة من
الانطلاق والمشاركة والفاعلية في مختلف الميادين. واليوم، أمام ما نشهده من حضورٍ
نَسَويٍ فاعلٍ على أوسع نطاقه، يأتي الحديث عن العباءة والهدف من ارتدائها
ومستلزمات الالتزام بها من خلال استضافة بعض الأخوات اللواتي تعبّر تجربتهن عن حضورٍ
فاعلٍ في لباس العباءة الزاهرة.
* العباءة علمٌ وعمل
الدكتورة غادة أحمد عيسى، لم تقف عباءتها حائلاً دون نيلها درجة الدكتوراه في "علم
القانون الخاص". وهي اليوم أستاذة في مادة الحقوق في الجامعة اللبنانية، تتحدث عن
تجربتها قائلة: "لم يكن للعباءة في الوسط الأكاديمي سابقاً هذا الحضور الذي نشهده
اليوم، إذ غالباً ما كان يقتصر حضور العباءة على الحوزات الدينية، وهذا ما واجهتُه
عندما أردت أن أُكمل دراساتي العليا، فكانت نظرات الاستهجان تلاحقني كفتاةٍ متعلّمةٍ
ترتدي عباءةً في وسطٍ يجمع مختلف الأطياف من الطوائف اللبنانية. والحجاب ليس
متعارفاً عليه كثيراً في هذا الجو فكيف إذا كان عباءة! وبما أني كنت طموحةً وأحبُّ
العلم، وفي الوقت نفسه أعتبر أن التزامي بالعباءة كمالٌ ظاهري لمضمونِ ما اعتقده،
فقد وضعتُ هدفَ التفوُّق نُصْبَ عينَيّ؛ لاعتباري أن التزامي يفرض عليَّ مسؤوليةً
أكبر في الحضور وأداء الرسالة. والحمد لله استطعت أن أُثبت وجودي وأقدّم رسالةً
مفادها أننا وبهذا الزيّ نستطيع أن نكون حاضرات في أوسع المجالات. وهذا الأمر أثار
إعجاب الدكاترة الذين أشرفوا على دراستي حتى أن أحدهم صرَّح بالقول لي: لم أرَ
طالباً مثلك رغم أني تساءلت في البداية عندما رأيتك بالعباءة قائلاً: ماذا جاء
بالفتاة إلى هنا؟". بعد ذلك كنتُ أوّل من وقفت بعباءتها أمام عددٍ كبيرٍ من الطلاب
في الجامعة والذين فيهم طبعاً من لا يتقبل أصل وجود العباءة ولكن بحمد الله أيضاً
استطعت نتيجة أخلاقي في التعامل معهم ومصداقيتي في الحديث أن أُوصِلَ رسالةً مفادها
أننا نستطيع أن نصل إلى أعلى المستويات دون أن يشكّل المظهر الخارجي عائقاً أمامنا،
وأن الفتاة التي ترتدي العباءة تجمع بين المفاهيم الدينية والمجالات التي تودّ أن
تنطلق بها. 'تعتبر الدكتورة غادة، والتي تطمح إلى أن تصبح أوّل "محامية" تدافع عن
حقوق الناس بعباءتها، أنّ تكليف كلّ فتاة ترتدي العباءة: "أن ترفع دائماً من
مستواها العلمي مع محافظتها على التزامها".
* اهتداءٌ بالعباءة
وفاء قطايا تسكن شرق بيروت، وسط بيئة ذات طابع عقائدي مختلف عن عقيدتها، لكنها رغم
ذلك وجدت أن العباءة تضفي هيبةً وحضوراً واحتراماً لوجودها "كإنسان" وليس "كأنثى"،
فضلاً عن أنها ترجمةٌ حقيقيةٌ للكمال، سواءٌ في السلوك أم في الارتباط بالله عزّ
وجلّ. تقول وفاء: "لقد تربّيت في وسطٍ مختلفٍ نوعاً ما عن عقيدتي، ولهذا لم أكن
ملتزمةً بتفاصيل الأحكام الشرعية، فعشت جواً يتلاءم والبيئة المحيطة من حولي، لكني
كنت دوماً أشعر أن شيئاً ما ينقصني من حيث إثبات وجودي في المجتمع "كإنسان". ثم
شاءت الظروف أن أتعرف إلى أخوات يرتدين العباءة فوجدت أن حضورهنّ بهذا اللباس
وبمعزلٍ عن الأنوثة يضفي عليهن الوقار والهيبة اللذين كنت أتطلع إليهما ويمكّنُهنّ
من الوصول إلى أهدافهنّ الرساليّة بقوةٍ أكبر. ثم وبعد تعمّقي في دراسة علوم أهل
البيت عليهم السلام، خلصت إلى أن الالتزام يجب أن يكون قلباً وقالباً، فارتديت
العباءة عن خيارٍ وقناعة".
* العباءة حضورٌ بالانسانية
السيدة مروة نور الدين، وهي طالبة حوزوية، تؤكد أن الالتزام لم يكن يوماً ليشكّل
عائقاً في وجه انطلاقة المرأة وفاعليتها: "نحن نعتبر أن العباءة تدفع المرأة
للارتقاء إلى مراتب الإنسانية أكثر من أي زيٍّ آخر، لارتباطها بالعقيدة الإسلامية.
فالتاريخ الإسلامي يشهد أن النساء من أهل البيت عليهم السلام اتخذنها لباساً، فلذلك
نحن نقتدي بهنّ. ثم إنها من حيث الشكل واللون تبتعد عمّا نشهده من موضةٍ وأزياء لا
تعرض فائدةً من المرأة إلا كونها عنصراً أنثوياً جميلاً، مُجَرِّداً إياها من
حضورها الفاعل بإنسانيتها.... ونحن نعتبر أن المرأة الملتزمة بعباءتها لها الحق
الكامل في تحقيق كامل طموحاتها سواءً العلمية أو العملية أو التربوية، فلا يقف
الالتزام عائقاً بوجهها خصوصاً في يومنا هذا الذي بات فيه حضور المرأة بعباءتها
يتوسّع في كثيرٍ من المجالات، حتى صرنا نشاهد إعلاميّاتٍ ناجحات يقدّمن برامج على
شاشات التّلفزة بهذا اللباس دون أن يحدّ ذلك من الهدف الذي يسعين لإجله.
* العباءة مسؤوليةٌ وقدوة
للعباءة عند السيدة إ. الموسوي قارئة عزاءٍ في مجالس أبي عبد الله الحسين عليه
السلام قدسيّةٌ خاصة: "أعتبر أن الارتباط بالعباءة يجب أن يأتي بالدرجة الأولى من
منبع الارتباط بسيرة أهل البيت عليهم السلام علماً وعملاً، والمقصود بذلك الاهتمام
بها من حيث الشكل والمضمون. فبالدرجة الأولى يجب الاهتمام بنظافتها، فالإسلام يهتمّ
لأن يبدو مظهر المؤمن بأبهى صورة، كذلك يُعدّ كل سلوكٍ تقوم به من ترتدي العباءة
رهناً بلباسها، فلو تصرفت بما يتناقض مع مبادئ أهل البيت عليهم السلام فإنها بذلك
تسيء إلى العباءة أو تشجّع بتصرفها هذا الأجيال اللاحقة ممن يردن ارتداء العباءة
على القيام بهذا السلوك. ولذلك هنا تكمن المسؤولية الكبرى في ارتداء العباءة حيث
تعتبر قدوةً في المظهر والسلوك، وتعكس مدى ارتباطها بأهل البيت عليهم السلام بما
يتوافق شكلاً مع القناعات الباطنية".
* كمالُ الالتزام
المحطّة الأخيرة كانت مع الحاجة عفاف الحكيم، المؤسِّسة لعدة جمعيات ثقافية
واجتماعية وإسلامية وتربوية، والمشاركة في العديد من المؤتمرات الخارجية في العديد
من دول العالم الأوروبي والإسلامي، والتي تشكل بحضورها رمزاً للمرأة الملتزمة التي
لا يقف التزامها عائقاً في وجه مواكبة مختلف النشاطات والميادين.
- ما هي خصوصية العباءة كلباسٍ شرعيٍ يهدف إلى التركيز
على المرأة كإنسان؟ وهل تنفرد وحدها بهذا الدور؟
نحن نعتبر أن اللباس الشرعي هو كل لباس ساتر للبدن بطريقةٍ واسعةٍ لا تُفَصِّل بدن
المرأة. ولكن من ناحية الكمال في الستر أصبحت العباءة هي الرمز الدال على كمال
الالتزام. ونحن نعرف أن السيدة الزهراء عليها السلام كانت تضع الملاءة الفضفاضة.
فمن هذا الجانب التي تلبس العباءة تعتبر أنها تريد أن تصل إلى الكمال في اقتدائها
بنهج أهل البيت عليهم السلام ومن ثم هذا الكمال يجعلها في المجتمع تبتعد عن التفكير
في تأثيرها بالجسد، بل تركز على عقلها ونتاجها الفكري وتنمية مداركها الإنسانية.
- كيف تقيّمين مشاركة المرأة بعباءتها في المجتمع؟ وأين
أصبح حضورها؟
لقد عملت في سلك التعليم 25 سنة، رأيت فيها أن الفتاة الملتزمة بعباءتها هي التي
تتناسب بيئتها وروحيتها مع طموحها الديني، وكانت تلجأ إلى رفع مستواها الروحي من
خلال دراسة العلوم الدينية فيما تهمل بقية العلوم. أما اليوم فإنها أصبحت حاضرة في
الثانويات والجامعات بأعدادٍ كبيرة، تدرس الطب والهندسة والاختصاصات الحديثة، كما
أن لدينا نماذج متعددة من النساء اللاتي قمن بمختلف المهام الوظيفية والإدارية
وغيرها واستطعن إثبات وجودهن دون أن تشكل العباءة حاجزاً يقف في طريق تحقيق طموحهن.
* الانفتاح لا يعني نكران الدين
كونكِ مَثَّلْتِ المرأة الملتزمة في المؤتمرات العالمية هل كنت تشعرين بالحرج من
نظرة الغرب إلى المرأة المحجبة؟
شاركتُ بما يقارب الخمسين مؤتمراً عالمياً في مختلف الدول، منها إيطاليا وبريطانيا
وفرنسا وماليزيا وغيرها، ولم أشعر يوماً بأي حرجٍ عندما كنت أُلقي كلمتي، لأني
أركّز على ما أقدّمه بفكري وليس بشكلي، بل على العكس، كان حضوري فكرةً واقعيةً
تقابل باحترامي "كإنسان" أحمل رسالتي وأؤديها دون أن تتعارض مع عقيدتي، بمعنى أنه
يمكن أن أنفتح على كل العالم دون أن يشكّل التزامي بديني أيّ حرج، حتى أنه في إحدى
المرات، وخلال مشاركتي بأحد المؤتمرات في فرنسا، وعلى أثر تلبيتي كما بقية
المشاركين دعوة الغداء التي أقامها رئيس الأونسكو، فقد أراد أن يصافحنا فرداً فرداً.
لم أنسحب من بين الحضور بل سلمت عليه بإحناء رأسي قليلاً فما كان منه إلا أن أحنى
نصفه دليلاً على احترامه وتقديره، فلم يشكل الالتزام عائقاً عن نشر ما جئنا نهدف
إليه أو نقرِّبه من وجهاتٍ في النظر على الإطلاق.
- ما هي المستلزمات التي تفرضها العباءة على المرأة في
حضورها في المجتمع؟
لا تمنع العباءةُ المرأة من الحضور الواسع في مخلتف المجالات بشرط أن تتناسب هذه
العباءة مع الشخصية المتّزنة والتي تملك أصالةً في حضورها وأخلاقها وسلوكها، لأن
نظرة الآخرين لهذه الشخصية لا تنفصل عن العباءة. ولكي نكون منصفين أكثر، فهناك بعض
النساء يعمدن إلى انتهاك قدسية العباءة عبر الدمج والملاءمة بين العباءة وموضة
العصر الحالية، فهذا النوع من اللباس لا يرتبط بأهل البيت عليهم السلام تربوياً
وروحياً، وإنما هو محاولة لارتداء لباسٍ بعيدٍ عن الكمال الذي ترمز إليه، فالعباءة
تمثِّل الارتباط بنهج أهل البيت عليهم السلام، ما يجعل من ارتداء العباءة تأسّياً
بهذا الارتباط، فيكون حضورها في المجتمع متوافقاً مع كونها ملتزمة، فلا يتناقض
التزامها مع حضورها.