نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

الرجوع إلى الله والحساب الدقيق



﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (لقمان/15).
في الآية السابقة كانت وصية لقمان بعدم طاعة الوالدين في حال أمرا ولدهما بأن يشرك بالله ما ليس له به علم. فهو وإن كان يجب عليه تحصيل رضاهما وعدم إغضابهما على كل حال، إلا أنه لا طاعة لهما في مخالفة الأصول الاعتقادية الحقة. فإذا كان الإسلام يأبى على الإنسان الذي يعتقد بأصول الدين والفروع المتشعّبة عنها أن يتبع حتى والديه في ما يخالف هذه الأصول والفروع. إذاً من يجب عليه أن يتبع في ذلك؟

* الضوابط بدلاً من الروابط:
تبين الآية المذكورة أعلاه أن التكليف الشرعي في مثل هذه الحالات يقضي بوجوب أتباع المنيب إلى الله عزَّ وجلّ. وفي هذا نكتة لطيفة ومهمة جداً، وهي أن الإسلام دين منطقي، وهو سواء من حيث الأصول الاعتقادية أو من حيث الفروع العملية قوي وغني ومتين وفوق كل فكر وعقيدة وشريعة، ومن هذه الجهة فالمسلمون في جميع الظروف يجب أن يكونوا تابعين لاعتقاداتهم الشخصية دون أي تأثير لأي فرد أو مقام.
وحتى الوالدين اللذين أوصى الله تعالى بهما خيراً، إذا كانا مخالفين لاعتقاده الديني أو النظري، فلا يجب في هذا المورد التسليم لهما وصرف النظر عن عقيدته الخاصة. ولذلك قال: ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا.

وبهذا الشكل نرى أن الإسلام دائماً يذكر الضوابط المستقيمة والثابتة، وعندما يحصل تعارض بين الروابط والضوابط فعندها لا يكون لروابط المعتقد أي قيمة حتى ولو كانت مثل الرابطة فيما بين الابن والوالدين اللذين أوصى بهما وجعل شكرهما إلى جانب شكر الله عزَّ وجلَّ. الوالدان اللذان تحملا المشقات الكبيرة عمراً من الزمن في سبيل الابن وآثراً راحته على راحتهما، لا قيمة لطاعتهما عندما يأمران ابنهما بما يخالف ضوابطه الاعتقادية.

* الرجوع إلى الفطرة:
الإنابة بمعنى العودة والرجوع، لقد خلق الله الإنسان على فطرة السعي والتوجه نحو الخالق سبحانه، ولكنه قد يقع تحت تأثير الميول المادية والجنية والجاه و...، وبذلك ينحرف مسيره عن الفطرة الإلهية. فما أن لتفت إلى هذا الانحراف حتى يتوجه مجدداً إلى الله سبحانه، طبعاً إن التوجه لأي شيء آخر سوى الله هو من باب الخطأ في التطبيق، فيتصور أن الخالق أو العظيم هو هذا الشيء أو ذاك، وإلا فإن التوجه الأساسي نحو الخالق الحقيقي وهو الله سبحانه. وقد يقضي الإنسان عمراً وهو غافل عن فطرته الأصيلة، وإذا ما حصل أن التفت في بعض الفترات أو اللحظات فإنه يعود إلى غفلته مجدداً ويستمر في مسيرته الانحرافية إلى آخر العمر. نعم، إن في باطن الإنسان ميولاً ورغبات مختلفة وكثيرة جداً إذا خضع لها ولم يراقبها جيداً فإنها تشده نحو الانحراف. مثلاً يوجد في الإنسان غريزة الشهوة وهي تجذبه إليها بشكل طبيعي.. وكذلك هناك غريزة الحرص ولذا نرى الإنسان يميل نحو الاحتكار واكتناز الثروات. وفيه غريزة الغضب وحب الرئاسة والسعي إليها. كل هذه الغرائز موجودة في الإنسان بشكل طبيعي وما لم يسعَ الإنسان لتعديلها وإشباعها بشكل سليم فإنها سوف تشده نحو الانحراف.
من الميول المغروسة في أعماق الإنسان السعي والتوجّه نحو الله سبحانه. وهو تعالى يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (الروم/30).

عندما تتجلى العظمة والجلال في نفس الإنسان المفطورة ذاتاً على التوجه والخضوع للعظيم على الإطلاق، فهو حتماً سيتوجه إلى الله سبحانه لأنه أعظم من كل عظيم وأجلّ من كل جليل.
الإنسان الذي يشده الهوى نحو الدنيا والماديات، ويجذبه حب المال والدعة نحو جمع الثروات وطلب الراحة، ويسوقه حب الجاه والمقام إليه وتدعوه غريزة الشهوة نحو الأعمال المنافية للعفة، فلو أنه من بين كل هذه اختار طريق الله فإنه بذلك يكون قد تجلى بجوهره الإنساني ووصل إلى قمة العظمة والكمال. القرآن الكريم يبين ذلك بأخصر عبارة حين يقول: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًاً (الإنسان/3).
العلماء الكبار، الشهداء، المؤمنون الصادقون والخلّص. سلمان وأبو ذر وأمثالهما. هؤلاء جميعاً ممن أناب إلى الله تعالى واختار صراطه المستقيم.

والقرآن الكريم يقول: أيها الناس! إذا دعاكم آباؤكم وأمهاتكم إلى شريعة غير شريعة الإسلام ومخالفة لعقيدتكم، فلا يحق لكم أن تطيعوهم ﴿فَلَا تُطِعْهُمَا، بل عليكم أن تعملوا بوحي عقيدتكم وإيمانكم وتتبعوا سبيل أولئك الذين هم على صراط الله المستقيم، ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
إذاً فاللَّه تعالى يبين الطريق للأبناء في هذه الآية الشريفة حتى لا يقول أحد إن والديّ أمراني بكذا فأطعتهما. فالطاعة في مسائل وأحكام الشرع منحصرة بالله فقط وعباده الذين اصطفى.
﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمَْ ؛
في الحلقة السابقة تحدثنا عن معنى {إليّ المصير} وهو بنفس معنى ﴿ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمَْ. أي أن مصيركم ومرجعكم جميعاً إليّ. نحن البشر كسيل عظيم في حركتنا حيث ننتقل عبر قنطرة الموت إلى الأبدية وهناك نصل إلى لقاء الله.
﴿فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ؛
بعد تأكيد وجوب شكر الله ومن ثم شكر الوالدين، ينتقل ليؤكد وجوب تذكر أن الرجوع هو إلى الله سبحانه وهناك سيتعرف كل إنسان إلى ما قدمه من عمل عندما يرينا الله تعالى إياه. في ذلك اليوم يسأل الإنسان عن جميع أعماله سواء البدنية منها أم الفكرية كالاعتقاد بالشرك وغير ذلك.

* في يوم القيامة لا بد من حصول ثلاثة أمور:
الأول: اطلاع الأفراد على الأعمال التي قاموا بها في الدنيا حتى يتعرف كل إنسان إلى فعله من الأعمال الصالحة وما ارتكبه من السيئات.
الثاني: المحاسبة على الأعمال.
الثالث: المجازاة والمعاقبة عليها.

الآية التي نحن بصددها ذكرت فقط اطلاع الأفراد على أعمالهم، أما الأمران الآخران فمذكوران في آيات أخرى من القرآن الكريم. والإنسان في يوم القيامة مسؤول عن جميع أعماله بدون استثناء، سواء المخفية منها أم العلنية، الصالحة منها أم السيئة، الفكرية منها أم العملية. ﴿فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ أي أن أعمال الإنسان يوم القيامة تكون ظاهرة له ومكشوفة له. وهذا ما أوضحه تعالى أيضاً في مكان آخر حيث يقول: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًاً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا  (الكهف/47 ـ 49).
ذلك اليوم هو يوم العرض والوضوح وظهور الأعمال صالحها وطالحها، ويعرف كل إنسان ما كان يفعله من أعمال في الدنيا. ولذا ورد في الدعاء: «فلا تفضحني على رؤوس الأشهاد».
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (لقمان/16).

* الحساب الدقيق:
في الآية السابقة ذكرت أن الرجوع إلى الله حيث سيطلعنا على أعمالنا، وبهذا نلاحظ أن الآية (16) هنا ترتبط ارتباطاً كاملاً مع سابقتها بحيث يمكن اعتبارها بمثابة بيان وتوضيح لها.
الخردل هو الحبة المتناهية في الصغر مثل حبة الخشخاش والنقطة السوداء وغيرها. والآية تقول إنه مهما عملتم ولو كان إذا قيس إلى الأعمال الأخرى اعتبر صغيراً جداً مثل حبة الخردل وكنتم قد ارتكبتموه في الخفاء بحيث لم يطلع عليه أحد مطلقاً، فلو كانت حبة الخردل هذه في قلب صخرة عظيمة أو في السموات أو في الأرض يأتي بها الله، ولو كان العمل صغيراً بهذا المقدار ومخفياً بهذا النحو فسيأتي به الله تعالى ويحاسب عليه يوم القيامة لأن الله تعالى لطيف وخبير وعالم بجميع الأعمال التي يقوم بها العباد ولا يغيب عن علمه شيء منها أبدأ.
بناءً على ذلك، فلو صدر منك أصغر الأعمال، سواء كان ذلك في العلن أو كان مخفياً عن كل عين فإنك سوف تحاسب عليه يوم القيامة.

جاء شخص في عالم الرؤيا إلى أحد أصدقائه بعد أن مرَّ على مماته مدة طويلة. فسأله صديقه عن حاله فقالله: منذ متُّ وحتى الساعة وأنا أجازي على عمل واحد. قال له: وما ذلك العمل؟ قال: خرجت يوماً من المنزل أريد المسجد.. فالتقيت بحطاب قد جمع قشاً ليبيعه ويقتات منه، فأخذت منه قشة صغيرة لأخلل أسناني دون أن أستأذن منه وأنا طوال هذه المدة أُحاسب على هذا العمل وكيف أستخدم مال الغير دون استئذان.
إذاً فالمحاسب يوم القيامة دقيق جداً وبصير جداً ولا يغفل عن شيء ويستطيع أن يحاسب على جميع الأعمال صغيرها وكبيرها، الفكري منها والبدني. هذه الأعمال تكون محفوظة في كتاب لكل إنسان. يقول تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ً (الإسراء/ 13 ـ 14).

ولعل الكتاب هنا ـ حسب الظاهر ـ غير الكتاب الذي يحصي جميع أعمال العباد، بل هو كتاب صغير وخاص بالإنسان المراد محاسبته. وكأنه خزانة أعماله يؤتي بها يوم القيامة ليحاسب عليها واحداً بعد آخر. ولا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، فالجميع أعمالهم تكون حاضرة، ويكفي أن يرى صحيفة أعماله ليحكم على نفسه. ﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا .

الآيات الثلاث الأخيرة في سورة الزلزلة تبين هذا المطلب بدرجة عالية من الوضوح أيضاً، حيث يقول تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  *  فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ  *  وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾.


 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع