نهى عبد اللَّه

بدا الجامع خالياً إلّا من كهول الحيّ وبضعة شباب. لقد كانت المرة الأولى التي أدخلُ فيها إلى مسجد، أشار صديقي "محمد": "اجلس حيث شئت ريثما نصلي العشاءين"، ثم اعتذر بخجل: "إنّها ليلة جمعة، سنحتاج إلى 25 دقيقة إضافية"، ثمّ انضمّ إلى رفاقه.

كنت و"محمد" صديقين نتشارك همّ "مواجهة المُحتل"، لكن حياتنا العملية على طرفي نقيض؛ فهو متدينٌ، يتحلّق الشباب حوله، ليحدّثهم عن الله بشغف، حتى أطلقوا عليه "المُفتي". كثيراً ما تساءلت: أنّى له كل هذا الحبّ لله، فيما أراه موضوعاً مؤجّلاً في حياتي؟!

لم ألاحظ أنهم أنهَوا الصلاة إلّا حين سمعت أصواتاً ترتفع حزينةً "اللّهم إنّي أسالك برحمتك التي وسعت كلّ شيء". شعرت بسكينة غريبة، فأصغيت؛ كانوا يتحدّثون مع الله بثقةٍ بعطفه عليهم. مسّني خشوعهم وشوقهم الطافي دموعاً على وجناتهم.. "ظلمتُ نفسي"، لاحظت صديقي "المفتي" الشاب القويّ يبكي كطفل. خجلت من نفسي التي لم أتحدث معها يوماً، لأرى أين هي، وما هي عيوبها التي يطلبون أن تنكشف لهم، وأن تُستر عن غيرهم، وأن يغفرها لهم "الغفور الرحيم". ماذا عني؟ وجدتني أردّد خلفهم: "أنت أكرم من أن تضيّع من ربيّته". هل أحتمل أن ألقاه دون مغفرة؟! كان طموحي قزماً أمام مناجاتهم: "هبني صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك؟!". تملّكني خجلٌ وعبءٌ ثقيل من الحسرة، أحدثَت تلك الجُمل صَعقاً لقلبي، كأنّما كانت كامنةً فيه زمناً دون أن أدري. التصقتُ بالأرض لشدّة انكساري، وسجدتُ دون أن أشعر... آهٍ من ذلك الجفاء الذي أيبس القلب! أيقظني "المفتي" بوجهه النوراني: "أرى أنّ كُميلاً قد صعقك، ستدمن عليه".

بعدما انخرطت معهم في الجهاد، كان "كُميلٌ" صديقنا الذي نفتتح به تحضير كل عملية. وذاك الجامع لم يعد خالياً، فقد أحياهُ فتيةٌ آمنوا بربّهم في ليالي الجُمعات.

^{(*) مقتبسة من أحداث خلدة 1982م، و"المفتي" هو الشهيد محمد نعمة يوسف، استشهد في كفرا بتاريخ 21-12-1985م.}