د. يوسف مَدَن
قيم السلوك في دعاء الافتتاح ووحدتها كمنظومة في توجيه
السلوك هي محور هذه الحلقات من الدعاء. وقد عرضنا في العدد السابق، المبدأ الأوّل
من المبادئ السلوكيّة - السيكولوجيّة، وهو مبدأ البحث عن اللذَّة وتجنّب الألم،
أمّا المبدأ الثاني فهو:
*مبدأ طلب العفو عن الذات:
أفصح نصّ الدعاء في بعض جمله وعباراته عن وقوع الذات البشريّة في الذنوب والمعاصي،
وشعورها بالضيق من ذلك. وعبارات هذا المبدأ متوافرة بدرجة واضحة، وتُجسّد بكلام غير
مباشر هرباً من ألم يقلق النفس ويدمّر صفاءها الداخليّ، ألم عقوبة الدنيا أو عقوبة
الآخرة أو كليهما، وفي الوقت نفسه يعتبر هذا بمثابة طريقة بحث عن (لذّة) مفقودة
يريد المرء استعادتها، لهذا وجد الإنسان المؤمن (المنتظر لظهور الإمام المهديّ عجل
الله تعالى فرجه الشريف) في طلب العفو فرصة متكرّرة لتحقيق رضا الله سبحانه وتعالى،
وبلوغ قدر معقول وطبيعيّ من الصحة النفسية، واستعادة قيمها، وتفعيل مبادئها في حركة
الذات.
أ- رحيم في موضع العفو:
خاطب الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف ربّه تعالى بتوازن حكيم، فاعتبره
"أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال (العقوبة)
والنقمة"، ومع ذلك عاد عجل الله تعالى فرجه الشريف فخاطبه في ندائه بالغفور بقوله:
"اللهم أذنت لي في دعائك ومسألتك فاسمع يا سميع مدحتي، وأجب يا رحيم دعوتي، وأقل يا
غفور عثرتي.."(1)، أي ارفع يا ربي زلّتي وخطيئتي عن نفسي، وأرحني من متاعبها
الداخلية ومصاعبها الثقيلة كالإحساس بالذنب وضغوطاته التي لا تتوقف، فهذا التوازن
في الترغيب والترهيب يجعل النفس تتعامل مع خالقها كرحيم لا يضاهيه أحد.
ولكن في مقابل ذلك تتحرّك النفس المنتظرة الراغبة في علاقة طيبة بالله مع هذا
المعتقد بوعي آخر يرى الله سبحانه "أشدّ المعاقبين في موضع النكال (العقوبة)
والنقمة"، ممّا يحمله على التفكير الجديّ بالتوبة، وطلب العفو وطلب رضا الله
سبحانه، ويؤدي به إحساسه بالتقصير إلى العمل على تصحيح السلوك، فلا يطمئنّ العبد
إلى الرحمة الإلهية وحدها، بل يخشى كذلك غضبه تعالى. حتى وإن وصفه الإمام المهديّ
عجل الله تعالى فرجه الشريف بـ"أرحم الراحمين"، وبـ "طول أناته في غضبه"(2)، فهذا
التذكّر بأنّ الله سبحانه وتعالى (أشدّ المعاقبين) يجعل الفرد المسلم المنتظر
يستثمر ما تبقى من حياته، ويستعدّ لبُعْدِ السفر، ولجلسة يوم الحساب التي قد تكون
طويلة.
ب- أسألك مستأنساً:
وحتّى يتحوّل خوفه أمناً، يسأله مستأنساً برحمته وفيض مغفرته، بل ويحمله طمعه في
رحمة الله وعفوه على (طلب ما لا يستوجبه من الله) لثقته بأنّه سبحانه الرؤوف
الرحيم، فقد جاء في مقطع من دعاء الافتتاح قوله عجل الله تعالى فرجه الشريف:
"اللهم.. إنّ عفوك عن ذنبي، وتجاوزك عن خطيئتي، وصفحك عن ظلمي، وسترك عن قبيح عملي،
وحلمك عن كثير جرمي، عندما كان من خطئي وعمدي.. أطمعني في أن أسألك ما لا أستوجبه
منك، الذي رزقتني من رحمتك، وأريتني من قدرتك، وعرّفتني من إجابتك، فصرت أدعوك
آمناً، وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً"(3).
*نتائج الرحمة الإلهيّة
ويستبطن النصّ السابق نتائج سيكولوجية واضحة:
أ- الشعور بالأمن وبخضوع النفس لحالة سرور وأنس خالية من الخوف والوجل، فعمليّة ستر
قبيح أعمال العبد مثلاً توفر للعبد المسيء إحساساً مؤقتاً بإتاحة فرص "الأمن
والحماية الإلهية" حتّى يستيقظ الغافل من غفلته وكبواته، حيث حماه ربّ العباد وحرسه
من مراقبة الآخرين ومعايرتهم، وبقي تحت مظلّة الأمن النفسيّ الإلهيّ.
ب- إنّ هذا الأمن والسرور كحالتين وجدانيّتين يأتيان مباشرة من رحمة الله سبحانه،
وهي رزقه لعباده التائبين الصادقين، فيتذوّقون حلاوتها.
ج- يتمكّن التائب الراغب في عفو الله من أن يتجاوز توتّره الداخليّ، ويتغلّب على
حالة الصراع النفسيّ في كيانه الداخليّ.
د- يصحّح العفو الإلهيّ (مسار حالة الانتماء) من انتماء للانحراف المنفلت إلى
انتماء سويّ رشيد يرتكز على قواعد مبنى عباديّ سليم، ويترتّب عليه تقدير إلهيّ
يُدخل الأمن والسرور على النفس الصادقة في توبتها، ويثيبها على دخولها الجديد لعالم
التائبين.
هـ- يرفع الله عن النفس الإنسانيّة قدراً كبيراً ممّا كان يعرقل نموّها الطبيعيّ
قبل طلب العفو والاستعانة بالله سبحانه كرفع متاعب الشعور بالذنب والإثم، فتتهيّأ
النفس لاستقبال قِيَم جديدة وتعاليم المشرّع التربويّ الإسلاميّ، فتجد نفسها في
صحوة راشدة ترسو بها عند محطّات (الصحة النفسية) وبيوتاتها الهادئة والوادعة.
و- بتحقّق العفو ينتقل العبد من لؤمه وجهله وعتبه الوقح، وتبغّضه الصلف لله سبحانه
وتعالى، والتطوّل عليه، إلى اللجوء لمولاه الكريم في دائرة الرحمة الإلهيّة، ويعبّر
الإمام المهدي جزاء هذه الرعاية وتعديل السلوك بمحدّدات إيمانيّة بالثناء والحمد
فيقول عجل الله تعالى فرجه الشريف: "اللهم إنّي أفتتح الثناء بحمدك", ويقول
كذلك: "فأثني عليه حامداً، وأذكره مُسَبِّحاً".