الشيخ محمد توفيق المقداد
ممّا لا شك فيه أنّ الثورة الحسينية أثمرت تغييرات مهمّة وأساسيّة في مسيرة الأمّة
الإسلامية في عصرها والعصور التي تلتها وإلى عصرنا هذا. وسيبقى تأثير هذه الثورة
مستمراً مع مرور الأيام طالما أنّ الأسباب التي ثار من أجلها الإمام عليه السلام
والأهداف التي كان يسعى لتحقيقها لا زالت قائمة لم تتغيّر. فالسبب هو انتشار الظلم
والفساد والانحراف والابتعاد عن الصراط الإلهيّ المستقيم، والهدف هو الإصلاح وإعادة
مسيرة الأمّة الإسلاميّة إلى التزام جادّة الحقّ والعدل.
*محاور التحريف
لهذا نجد أنّ الثورة الحسينية محفوظة في صدور أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وفي
كتب التاريخ الإسلاميّ بشكلٍ دقيق وبتفاصيلها حتى الجزئيّة والصغيرة جداً منها.
ولعلّنا لا نغالي إذا قلنا إنّ الثورة محفوظة بطريقةٍ لم يعهدها لا التاريخ
الإسلاميّ فقط، بل التاريخ الإنسانيّ كلّه.
إلّا أنه مع كلّ ذلك الحرص على حفظ تفاصيل الثورة نجد أنّ هناك نحواً من التحريف
والمغالطات تعرّضت لها النهضة الحسينية. والتحريف الذي سنتحدّث عنه يشمل محورين
أساسيين:
الأوّل: التحريف في مجريات الثورة.
الثاني: التحريف على مستوى الهدف.
أوّلاً: التحريف في مجريات الأحداث
وأمّا التحريف على مستوى مجريات الثورة فالمبرّر لكلّ تلك الإضافات والمغالطات في
مجريات الثورة الحسينية هو أنّها لا تدخل في باب البدع المحرّمة؛ لأنّ تلك الإضافات
ليست أحكاماً شرعية حتى تكون من إدخال ما ليس من الدين في الدين، بل يراد منها
زيادة التأثير والتأثّر والارتباط والمواساة للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل
بيته الكرام عليهم السلام. إلّا أنّ المواساة لا تبرّر ذكر أحداث أو تفاصيل لا أصل
لها في حركة الثورة الحسينية، أو تبرّر القيام ببعض الشعائر التي تسيء ولا تخدم هدف
الثورة الحسينية.
*عطش الحسين عليه السلام
ونسرد لكم هذه القضية كنموذج عن التحريف وهي الرواية التالية: (إنّ أمير المؤمنين
عليه السلام صعد يوماً إلى المنبر ليخطب في الناس، وحصل أن عطش الإمام الحسين عليه
السلام وطلب الماء فقطع أمير المؤمنين عليه السلام خطبته وطلب من الناس أن يأتوا
بالماء لابنه الحسين عليه السلام، فكان أبو الفضل، وهو طفل صغير، أوّل من نهض ليأتي
بالماء حيث ذهب إلى أمّه وأحضر الماء وعاد إلى المجلس والماء فوق رأسه وقد تبلّلت
ثيابه... إلى آخر القصة). ثمّ تكمل الرواية: (... ولمّا رأى أمير المؤمنين عليه
السلام هذا المشهد انسابت الدموع على خدّيه، ولمّا سُئل عن سبب البكاء، أجاب عليه
السلام: تذكّرتُ كذا وكذا...) يعني تذكّر قضية كربلاء وما يجري على الحسين والعباس
عليهما السلام فيها.
*تحريف لا يناقض الهدف
ومن هذه القصة يتبيّن معنا كما يقول الميرزا النوري: "إذا ما صدّقنا جدلاً صحّة هذه
القصة فهذا يعني أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يلقي تلك الخطبة في الكوفة إذ
إنّه عليه السلام لم يصعد إلى المنبر ويخطب إلّا في زمن خلافته، ممّا يعني أنّ
الإمام الحسين عليه السلام كان رجلاً يناهز الثالثة والثلاثين من العمر في ذلك
الوقت، فهل من المعقول والمنطقيّ أن يقوم رجل بذلك العمر مثل الإمام الحسين عليه
السلام ليطلب الماء من أبيه وهو يخطب بالناس ويعظهم؟".
ولكن مع كلّ هذه التحريفات فالأمر هيّن وسهلٌ لأنّ مثل هذا التحريف لا يشكّل خطرا
ًعلى النهضة الحسينية بحدّ ذاتها بما كانت تهدف إليه من إصلاح لمسيرة الأمة واتّزان
حركتها وضبطها لتسير في الاتجاه الصحيح.
ثانياً: التحريف الأخطر
أمّا التحريف على مستوى المضمون الأعمق والحقيقيّ للثورة الحسينية فهو الأخطر
عليها، لأنّ مثل هذا التحريف قد يتلاعب بعقول الناس وأفكارهم ويذهب بهم بعيداً عن
المقاصد والأغراض الشريفة والإلهية للثورة. وهذا النوع من التحريف غالبا ًما يقوم
به العدوّ لكي يشوّش الصورة عند الناس ويضيعوا في زحمة الأباطيل والأضاليل التي
ينشرها، والثورة الحسينية تعرّضت من جانب الأمويين والمغرضين والمنحرفين إلى هذا
النوع من التحريف، ومن النماذج الواضحة التي حفظها لنا التاريخ وفنّدها علماؤنا
نختار ما يلي:
أ- تشبيه استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بصلب عيسى عليه السلام: وهذا ما
يعتقده المسيحيون، باعتبار أنّ صلبه كان تكفيراً عن ذنوب أمّته وأتباعه. وكذلك قيل
إن الحسين عليه السلام قُتِلَ ليكون مقتله تكفيراً عن ذنوب شيعته وأتباعه. ومثل هذا
الكلام لا أساس له في ديننا على الإطلاق، إذ لا معنى ليكون قتل الحسين عليه السلام
تكفيراً عن ذنوب أتباعه، وتصديق هذا الكلام يستلزم إنكار ما جاء به الله في القرآن
الكريم من آيات الوعد والوعيد والجنّة والنار والبعث والثواب والعقاب. ولا أتصور
أنّ عاقلاً يقبل بمثل هذا الهراء غير الموجود إلّا في خيالات وأوهام بعض المغالين
أو المغرضين.
ب- الاعتقاد أنّ هناك أمرا ًإلهياً صدر للإمام الحسين عليه السلام بقتل نفسه،
وذلك من خلال خروجه وثورته ضدّ يزيد، وعليه فإنّ ثورة الإمام الحسين عليه السلام
ليست للاتّباع والتقليد. وهذا النوع من التحريف ممّا يتنافى مع الأوامر الإلهية
بالثورة ضدّ الظلم والظالمين، بل إنّ الإسلام يعتبر أنّ عدم الثورة ضدّ الظلم هو
عين الهلكة والموت، وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ فوق كلّ ذي
برّ برّ حتى يُقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه برّ"(1)، وكلام أمير المؤمنين
عليه السلام: "الموت في حياتكم مقهورين خير من الحياة في موتكم قاهرين"(2)
أو "الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه..."(3) خير شاهد
على ما نقول. إذاً، هذا النوع من التحريف لا يُنتِج إلّا التقاعس والخمول واليأس
والإحباط. وكلّها معانٍ سلبية تتنافى مع أغراض الإسلام ومقاصده في نشر العدل والحق
والرحمة والأخوّة والتعاون والوحدة، وغير ذلك، التي لا سبيل لإقرارها في حياة الناس
إلّا بالثورة ضدّ الظلم والطغيان ومحاربة الظالمين والمستكبرين.
ج- إنّ الحسين عليه السلام قد خرج ليوقع الفرقة والاختلاف بين المسلمين، وفي
هذا القول إيحاء بأنّ الأمّة كانت متوحّدة، إلّا أن الحسين عليه السلام بثورته قد
قسَّم الأمة بين مؤيّد له ومؤيّد لعدوه يزيد. ولذا، نجد أنّ عبيد الله بن زياد
عندما أُحضِر مسلم بن عقيل أمامه، خاطبه قائلاً: "لقد كانت المدينة أي الكوفة، قبل
قدومك آمنة مطمئنة وقد جئت إليها لخلق الفتنة وبثّ الفرقة والدعوة إلى التمرّد
والعصيان. لكنّ مسلماً ردّ عليه بالقول: إنّ مجيئي إلى هذه المدينة كان بطلبٍ من
أهلها، ورسائلهم التي دعتنا إلى المجيء موجودة. ثم إنّ الناس كتبت في رسائلها أيضاً
أنّ أباك زياداً عندما كان والياً على الكوفة قتل صلحاءها وسلّط أشرارها عليها، ولم
يترك ظلماً أو إجحافاً إلّا ارتكبه ومارسه ضدّ الناس، ولذلك فإنهم دعونا لإقامة
العدل وقد جئنا لتحقيق هذا الهدف".
هذه النماذج هي جزءٌ أيضاً من التحريف لهدف الثورة الحسينية، إلّا أنّ كلّ هذه
الأنواع من التحريف لم تصمد أمام النقد الموضوعيّ البنَّاء بالاستناد إلى تصريح
الآيات القرآنية وأحاديث السنّة النبوية ونفس كلمات الإمام الحسين عليه السلام
والنصوص التي خلّدها لنا التاريخ الإسلاميّ في العديد من الكتب المعتبرة. ولم يستطع
كلّ تلك الأنواع من التحريف حول وقائع الثورة أو حول أهدافها ومقاصدها أن يؤثر في
أذهان الأمة، وبقيت عاشوراء الحسين عليه السلام الرمز الأكبر للمجاهدين والأحرار
والأبرار والثائرين، وما أجمل ما قاله الإمام الخميني قدس سره من: "أنّ كلّ ما
لدينا هو من عاشوراء".
1-
الوافي، الكاشاني، ج5، ص912.
2- الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي، ص221.
3- نهج البلاغة، خطبة 27.